IMLebanon

حين تدب الروح على مساحة الوطن

لم تكن «14 آذار« في أحسن حالاتها قبل عودة الرئيس سعد الحريري وخطابه في البيال، ولا هي في أحسن أحوالها اليوم، لكن حدوداً كثيرة رسمها الخطاب لمرحلة مقبلة، من الواضح إنها لن تشبه المرحلة الماضية منذ انقلاب «حزب الله« على حكومة الوحدة الوطنية التي أفرزتها نتائج انتخابات ، وفرض هيمنة الميليشيات المباشرة على السلطة بقوة السلاح.

جاء الخطاب في لحظة إشكالية بعد أن هُيّئ لكثيرين أن ترشيح النائب سليمان فرنجية هو تعبير عن دخول مشروع آذار في زمن التنازلات الكبيرة، وربما انتصار مشروع إلحاق لبنان بالولايات الخاضعة لحكم «الولي الفقيه«. ولذلك كان مهماً أن يرسم خطاب الرئيس سعد الحريري حدود المواجهة والتسويات، في لحظة لها ما بعدها في تاريخ الشرق. كان مهماً أن يُعلن العنوان العريض للمواجهة: «لبنان لن يكون ولاية إيرانية«. وهذا يعني بوضوح أن كل المبادرات تبقى تحت سقف تنازل اللبناني للبناني، لا تنازل لبناني للإيراني الذي يتوهم أن بيروت ليست إلا أسهل العواصم العربية ابتلاعاً.

تحت هذا السقف اللبناني المرتفع، كان الخطاب أول مناسبة يتحدث فيها الحريري بلسانه هو، لا بلسان من يقوّلونه ما يتمنّونه أو يجدون فيه مصلحة، عن سياق المبادرة التي أقدم عليها لكسر الجمود القائم وإطلاق عجلة الحياة السياسية المجمدة لصالح سلطة الأمر الواقع. في بعده المحلي، هذا هو خطاب سعد الحريري، يأتي في سياقٍ طبيعي لمنطقٍ في العمل السياسي صار عمره عاماً. فمنذ بداية التسعينات وحتى يومنا هذا، اعتمدت «الحريرية الوطنية« تقليد «ام الصبي« في ثقافتها السياسية، وهو تقليد «الاستيعاب« الذي جعل من هذا البيت بيتاً للتسويات وتدوير الزوايا حفاظاً على الدولة ومؤسساتها. تقليد قام ويقوم على مبدأ «لا تكن ليناً فتُعصر ولا تكن قاسياً فتكسر«. هذا لا يعني الانكسار الشخصي لهذا البيت الذي قدم اغلى ما يملك حفاظاً على الوطن، بل ألا ينكسر البلد. والشواهد على ذلك كثيرة.

كان يمكن لخطاب شباط أن يكون مفاجئاً فقط لو أن شيئاً من أدبياته ورد في شباط، على لسان أصحاب القبضات والأصابع المرفوعة والقمصان السود وأثلاث التعطيل. أما أن تأتي المبادرات والتسويات في حضرة رفيق الحريري، فلذلك تاريخٌ أعطى لبنان فسحة من الاستقرار والنمو في ذروة زمن الوصاية السورية، ما زال خيرها يعم حتى اليوم.

كان الحريري صارماً في وجهةِ تحديد المعركة، لكنها معركة يخوضها من منطلقات سياسية – وطنية جامعة تتلاءم وتاريخ «أم الصبي«: هي معركة بوجه التعطيل والمعطّلين لملء الشغور الرئاسي، ومعركة بوجه مشروع تحويل لبنان الى ولاية ايرانية، ومعركة المحافظة على الدولة ومؤسّساتها، ومعركة لتكريس العلاقات الاخوية مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج والدول العربية انطلاقاً من الانتماء العربي للشعب اللبناني.

بدا خطابه في الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري بديهياً ومتوقّعاً، لكنه ليس سهلاً. ليس سهلاً الإصرار وسط كل هذا الجنون على أن هناك مستقبلاً واحداً للّبنانيين معاً تحت سقف الدولة والدستور، بعيداً من حروب المقاولة والمظلوميات المفتعلة خدمةً لمشاريع امبراطوريات تقتات على أشلاء العرب. ليس سهلاً الإصرار على معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وخلق فرص عمل للشباب بعيداً عن الحروب المقدسة التي يُساق اليها الشباب اللبناني. ليس سهلاً ان يواجه المحاذير الامنية والشروط التي وضعتها قوى الامر الواقع و«الرؤوس الحامية« لعودته الى لبنان، ليؤكد من بيروت ان لبنان لكل اللبنانيين، لا لفئة ولا لطائفة ولا لحزب ولا لزعيم. ليس سهلاً الإصرار على التسمك بالمشروع الوطني العابر للطوائف وإعادة تقييم تجربة قوى 14 آذار بوجه المشروع الطائفي العابر للحدود. 

ما من تحدٍّ أصعب على السياسي في لبنان من أن يعبر الطوائف ويصبح قائداً وطنياً في لبنان. ذاك قدر سعد الحريري، الذي يحاول جاهداً إقناع بيئته واللبنانيين بتحييد لبنان عن مشاريع التقسيم والتفتيت والتجويع والتكفير والارهاب بكافة أشكاله ومنطلقاته الداعشية والإيرانية. هذا ليس من حسن حظ السنّة فقط، بل من حسن حظ المسيحيين المُلزمين ملاقاة الحريري في منتصف الطريق لتفعيل الدولة ومؤسساتها ولحماية وجود الدولة ووجودهم بالوقوف بوجه مشروع تحويل لبنان الى «دولة اسلامية« تابعة للولي الفقيه، ومن حسن حظّ الشيعة أيضاً، الذين يسوقهم نصرالله إلى الموت.