IMLebanon

لماذا لم يسم بري المعطلين

في خضمّ المعركة السياسيّة الكبرى تحت عنوان «الميثاقيّة»، التي يخوضها التيار الوطنيّ الحرّ وعدد كبير من المسيحيين، تنسكب وتتساقط عبارات لتنفجر تباعًا على الأرض مثل الفديرالية كحالة رديفة أو بديلة عن الميثاقيّة، يتوثّب الوجدان المسيحيّ نحو إفرازه. وتستغرب بعض الأوساط وفي هذا المعرض زجّ عبارة من هذا النوع غير واردة في الذهن والعقل، في الفكر والفعل، فالمسيحيون منذ تكوين لبنان، وبخاصّة من استلذّوا يمزيجه الفريد وذاقوه بحلاوته، ليسوا انفصاليين ولا هم دعاة قيام دويلة لهم وخاصّة بهم. الفلسفة الميثاقيّة بدسامتها وكثافتها هي العنوان الجوهريّ للحراك الحاليّ، للمعركة الداخليّة ولم يتطرّق التيار البتّة إلى الفديراليّة.

يشير مصدر سياسيّ متابع، بأنّ الوضع في لبنان وبعد تعليق اعمال طاولة الحوار ومناقشاتها ومداولاتها، محموم بمناخاة متوتّرة ومأخوذ إلى عبارات تضليليّة، ستنفجر في سياق هذه المعركة لجذبها إلى عناوين وهميّة مليئة بالكثير من التأويل والتقويل، فيما المراد واحد وهو تحقيق الميثاقيّة بجوهرها الكامل أي بالمناصفة الفعليّة من التعيينات الإداريّة وصولاً إلى قانون انتخابات عادل ورئاسة الجمهوريّة.

أوساط التيار الوطنيّ الحرّ أستغربت زجّ مناخ كهذا، وقالت بأنّ الهدف منه، وضع الزيت على النار، وتحريك حزب الله بوجدانه ورؤيته ليدخل في اصطفاف معاكس لما نصّ عليه في ورقة التفاهم، من خلال زجّ عبارة تشكّل حساسيّة واضحة في عقله، وتقوده إلى نوع من جفاء مع التيار الوطنيّ الحرّ. وتكمل تلك الأوساط استغرابها معتبرة بأنّ أدبيات التيار بجوهرها لافظة لأي نوع من الفدرلة أو التقسيم، ونضال العماد ميشال عون منذ كان قائداً للجيش ورئيساً للحكومة العسكريّة مروراً بالمنفى الباريسيّ وصولاً إلى عودته للوطن وانتخابه نائباً، ارتكز دوماً على المسار الوطنيّ، وجعل من المواطنة مدى لتطلعاته ومن المشرقيّة حوضًا لحراكه ومن العروبة أساسًا لتوجهاته. فمن توشّح بتلك المنطلقات من الطبيعي أن ينكب على اطروحة نافرة لا هو قابل بها وهي عنده تشكل حساسيّة كما عند الآخرين. وتؤكّد تلك الأوساط قائلة، لو كان عون فدراليّاً بالشكل والمضمون لما كان حتّى الآن يشترط موافقة المكوّن السنيّ بأكثريته المطلقة ليجعل انتخابه مناسبة إحيائيّة للميثاق الوطنيّ الرابط بين الطوائف والمكوّنات اللبنانيّة.

وتكمل تلك الأوساط معتبرة بأن انكباب العماد ميشال عون والتيار الوطنيّ الحرّ مع رئيسه جبران باسيل على استرداد الحقوق المسيحيّة السليبة بنضال مستميت، يصب في تعزيز قيمة المواطنة وليس تحقيق الفدرالية، في حين أن الاستبقاء على الحقوق المسيحيّة سليبةً يبطلها ويدمّرها. فلا يعني الانكباب في حقيقته سعياً للانفصال بل للاتصال. وتذكّر بأنّ الفلسفة الميثاقيّة بجوهرها، هي عقد جوهريّ ومتين، وعهد وجوديّ وكبير بين نفيين رانٍ بقوّة إلى بناء لبنان الوطن. ففي الدستور مادّتان يجب قراءتهما بتؤدة ودراية وحكمة هما 24 و95 تتكلّمان بوضوح على المناصفة كآلية عمل وتفاعل، لم يتوقّف المشرّع هنا عندها بحروفيّة نافرة كأن يقول لا إله… بل ذهب وبالتحديد في المادة 95 للاشتراط بأن المناصفة شرط لإلغاء الطائفيّة السياسيّة. المناصفة ليست فقط شرطًا بل طريق وجسر يؤدّي نحوها. غير أنّ الفلسفة الميثاقيّة المكنونة بصلابة في مقدّمة الدستور، والتي من رحمها ولد الدستور، ترتكز بصورة جامدة على إبطال مفعول الطائفيّة المتلاشية الظاهرة بقوّة بعد اتفاق الطائف، والمتحرّكة من طائفة سيّدة، هنا وثمّة، بطائفيّة متوازنة رصينة تعترف ببقيّة الطوائف كمكوّنات حقيقيّة وجوهريّة للبنان، وتلغي من القاموس السياسيّ أي عمليّة استيلاد ناتجة من أيّة طائفة للمكوّن المسيحيّ، فيبدو الاستيلاد إلغاءً كاملاً لهذا المكوّن. الاستبقاء على المظلوميّة اللاحقة بالمسيحيين هو تهميش وتهشيم وترضيض وبتر، وكلّ تلك المفردات من شأنها ان تجعل الصراخ عالياً والاحتجاج نافراً ولو بلغ حدّ التمرّد والعصيان. الاتجاه هذا بعمقه واتجاهاته نقض لمنطق الفديرالية، وهو غير مبثوث في فلسفة التيار الميثاقيّة، والتي يناضل في سبيل تجسيدها ضمن المؤسسات السياسيّة وبالاتجاهات كافة.

لقد بنيت الفلسفة الميثاقيّة بجوهرها على الاعتراف بالآخر والقبول به، ويقول أحد الكبار في لبنان والمشرق العربيّ المطران جورج خضر «بأنّ الآخر ضرورة لي حتّى التنفّس»، وقد تشارك المطران خضر والإمام موسى الصدر في تمتين تلك الفلسفة ببعدها الوطنيّ والعربيّ والمشرقيّ، وكلاهما وقفا جنباً إلى جنب مع كبار احتجاجاً على الحرب في لبنان في الكليّة العامليّة، كرسالة واضحة بأنّ مسيحيي لبنان ومسلميه رافضون للحرب. القبول المتبادل وبحسب رؤية التيار، هو القبول الشخصيّ والجمعيّ، ومن ثمّ القبول بحقّ كل واحد كشريك، والقبول بالشراكة كرؤية تجسيديّة تبيح بكلّ ما للكلمة من معنى ولادة لبنان الوطن وليس الكيان، فالكيان قابل للتبدّل في حين أن الوطن هو الحقّ المطلق المعترف به كونيّاً شعباً وجغرافيا، دولة ومؤسسات.

وتتساءل الأوساط عينها عن الأسباب الحائلة دون تحقيق الاستحقاقات المطلوب القيام بها. وقد ظهرت بوادر إيجابيّة كادت أن تقود إلى تسوية إنعاشيّة تؤمّن الحلّ للواقع اللبنانيّ المتردّي بدءاً من الذهاب إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة. لقد كان لبنان على قاب قوسين من التسويّة فمن الذي قام بإجهاضها؟ وتعتقد تلك الأوساط بأنّ من فتح كوّة في الجدار السميك كان السيّد حسن نصرالله أمين عام حزب الله بناءً على لقاءات تمّت بين الوزير جبران باسيل والسيّد نادر الحريري، تمّ بموجبها إحياء التسوية القائلة بانتخاب من يمثّل الوجدانات الطائفيّة بأكثريتها الساحقة، وتمّ الخلوص إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة مقابل تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، وتؤكّد الأوساط ما صرّح به الوزير وئام وهّاب بأنّ حزب الله سلّم مفتاح رئاسة الحكومة للعماد عون، ولمّا نضجت التسوية بعناصرها التقى نادر الحريري بمسؤولين من حزب الله وأبلغهم رسميًّا بقبول الرئيس سعد الحريري بانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة. وعلى هذا بنى وزير الداخليّة نهاد المشنوق رؤيته بأنّ العماد عون سينتخب رئيساً للجمهوريّة.

من أجهض التسوية في لحظاتها الأخيرة إنما قصد أخذ البلد إلى أزمة ميثاقيّة ووجوديّة ملاصقة للعاصفة الكيانيّة في المنطقة. فالقوات اللبنانيّة وحزب الله والتيار الوطنيّ الحر ساروا بالتسوية، والدليل على ذلك خطاب الدكتور سمير جعجع في معراب وفيه دعا إلى انتخاب العماد عون وتسمية سعد الحريري رئيساً للحكومة وحزب الله فتح الطريق نحو نضوج تلك التسوية، العتب على الرئيس نبيه برّي انّه لم يسمِّ المجهِضين، وحين تكلم على العبث في الدستور، كان يفترض أن يسمي، وبالتالي فإن الكلام على العبث من أخطر ما يكون، بمعنى أننا بتنا أمام سقوط عميم للسلطة.

وفي الختام تشير المعلومات بأنّ الرئيس نبيه برّي ترك هامشاً للعودة إلى الحوار بالشكل وفي الجوهر، بمعنى أنّه تعليق الحوار ليس تراجيديّاً على الإطلاق. فالحوار أنتج بحدود واضحة استرخاءً، وطاولة الحوار لم تكن لو بلغ لبنان توازنه واستقراره بوجود رئيس للجمهورية وحكومة متينة ومجلس نواب يقوم بأعماله. لقد غدت المؤسسة الرديفة عن المؤسسات الأخرى وإن شابها عطب وتغلّفت بالثقوب وتأثرت بالندوب. وهي بحقّ طاولة تأسيسيّة تحاول اجتراح الحلول. وتظهر المعلومات بأنّ البلد سيبقى مأزوماً على كلّ المستويات في لحظة نهاية عدمية لاتفاق وجد بتوافق سوريّ – سعوديّ – أميركيّ، لم يجسّد الميثاق بكليّته، ومع الصراع السوريّ – السعوديّ، والإيرانيّ – السعوديّ، لم يعد للطائف أيّ دور وأيّ وجود، ولو بتأمين ديمومة التسوية. البلد في كلّ الاصطفافات ذاهب إلى محطة جديدة من حياته، عسى أن لا تكون دامية.

لقد تعود اللبنانيون على المحطات الدامية وعليها تبنى التسويات، فهل يعقلوا لنبلغ إلى تسوية طالعة من وفاقنا الجديد بدلاً من صدامنا العتيق المتجدّد؟

العودة إلى الفلسفة الميثاقيّة والاعتراف بالحقوق العائدة للمسيحيين طريق إلى الوفاق وما خلا ذلك دروب متشعّبة ومعقّدة ومؤلمة نحو الهاوية.