IMLebanon

لماذا تعثّرت خطط الأمم المتحدة للتنمية؟

 

تشير الإحصاءات الرسمية المتداولة في أوساط الأمم المتحدة، إلى أن عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع انخفض في العالم إلى أكثر من النصف خلال العقدين الأخيرين، إذ تؤكد أن عددهم عند نهاية القرن الماضي كان 1900 مليون شخص (أكثر من ربع سكان العالم) وعند نهاية 2015 أصبح 836 مليوناً فقط. وحين انعقد في نيويورك في 1 أيلول (سبتمبر) عام 2015 «مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة» وشرع في تقييم نتائج الخطة الأولى للتنمية المستدامة ووضع تفاصيل الخطة الثانية، بدت أهداف تلك الخطة الطموحة إلى درجة تكاد تلامس حدود اللامعقول!

 

لا أود التشكيك في مدى دقة هذه الأرقام ولا في حسن نوايا الجهات الدولية المعنية وواقعية ما تحاول أن تشيعه من أجواء للتفاؤل أو تغذيه من طموحات. ومع ذلك، المسيرة المتعرجة للأمم المتحدة في مجال تحقيق التنمية، خصوصاً في ضوء ما يجري اليوم من صراعات، تفرض علينا التعامل بحذر مع الأرقام المتداولة وتدفعنا الى طرح تساؤل، أظنه مشروعاً، حول ما إذا كان الفضل في ما تحقق من نجاح في تخفيض عدد الفقراء في العالم، بافتراض صحة الأرقام الأممية المتداولة، يعود إلى جهود ونجاعة سياسات المؤسسات الأممية العاملة في المجالات التنموية، أم إلى أسباب أخرى لا علاقة للأمم المتحدة أو لمؤسساتها البيروقراطية بها.

 

من المعروف أن ميثاق الأمم المتحدة، حين صدر في عام 1945، أبدى اهتماماً بتحقيق التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، غير أن ما تضمنه من نصوص حول هذه المسألة اتسم بعمومية شديدة ولم تحدَّد قواعد ملزمة لسلوك الدول الأعضاء يستدعي الخروج عليها زجراً أو ردعاً أو عقاباً، بعكس النصوص المتعلقة بمجالات السلم والأمن الدوليين. أما على صعيد الممارسة العملية، فقد تطور موقف الأمم المتحدة من قضايا التنمية ليعكس تطور علاقة وموازين القوة بين مدرستين مختلفتين:

 

الأولى: ترى أن قضية التنمية مسألة داخلية، ومن ثم فإن مسؤولية معالجتها تقع على عاتق الدولة ممثلة بحكوماتها، أما دور الأمم المتحدة فتنسيقي في المقام الأول ولا ينبغي أن يتجاوز في جميع الأحوال تقديم النصح والإرشاد. وقد انحازت الدول الرأسمالية المتقدمة تماماً الى هذه المدرسة.

 

 

الثانية: ترى أنها قضية دولية في المقام الأول، لأن السبب الرئيس في تخلف الدول النامية يعود إلى النهب الذي مارسته الدول الاستعمارية، وإلى الخلل الكامن في بنية الاقتصاد الدولي والذي ينبغي تصحيحه. وقد انحازت دول العالم الثالث إلى هذه المدرسة ودعمتها دول الكتلة الشرقية التي طالبت بتحميل الدول الاستعمارية وحدها تكلفة التنمية المطلوبة.

 

وأياً كان الأمر، فقد توقف حسم هذا الخلاف على مصير «نظرية الأمن الجماعي»، بشقيها الأمني – السياسي والاقتصادي – الاجتماعي. وعندما تبين، بخاصة بعد طرح «مشروع مارشال» وتأسيس «حلف ناتو»، أن انقسام العالم إلى معسكرين متصارعين سيفضي حتماً إلى انهيار نظرية الأمن الجماعي وإفساح الطريق أمام نظرية بديلة هي «نظرية مناطق النفوذ»، وجدت دول العالم الثالث نفسها في مأزق تعيّن عليها أن تسعى الى الخروج منه، ولم يكن أمامها سوى توظيف وزنها العددي المتزايد داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة لحمل المجتمع الدولي على القيام بدور مباشر لإخراجه من حالة التخلف والتبعية التي كان عليهما. لكن ما طبيعة هذا الدور وبأي وسائل وأدوات يمكن أن يتحقق؟

 

الواقع أن جهود الدول النامية راحت تتمحور في البداية حول طلب معونة مباشرة تقدم من خلال منظومة الأمم المتحدة، أي بعيداً من المشروطية السياسية، وجاءت الاستجابة بطيئة ومحدودة ومتدرجة، بدأت مع «برنامج المعونة الفنية» في الخمسينات وانتهت إلى «برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP في منتصف الستينات.

 

ولأنّ ما قدّم من خلال هذه البرامج كان محدوداً جداً بالنظر إلى حجم الاحتياجات المتزايدة، فقد أدركت دول العالم الثالث أن عليها أن تفكر بطريقة مختلفة وأن تسعى إلى تحسين شروط التبادل الدولي، ومن ثم رفعت شعار «التجارة لا المعونة» وطالبت بتصحيح الخلل الكامن في شروط التبادل الدولي، ونجحت بالفعل في تأسيس «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD عام 1964، الذي كان من أهم ثماره الاتفاق على «نظام التفضيلات المعمم Generalized System of Preferences. وعلى رغم تحرك الأمم المتحدة في اتجاهات عديدة، استهدف بعضها وضع خطط تنمية لزيادة الدخل القومي للدول النامية بمعدل لا يقل عن 5 في المئة سنوياً، واستهدف بعضها الآخر ضمان الدول المتقدمة بتقديم معونة سنوية للدول النامية لا تقل عن 1 في المئة سنوياً من إجمالي دخلها القومي..الخ، إلا أن ما أنجز على أرض الواقع كان محدوداً جداً. فلم تلتزم الدول المتقدمة بهذه النسبة مطلقاً، وظلت أهداف خطط التنمية مجرد أمانٍ غير قابلة للتحقق، وراحت المشكلات التنموية تتفاقم في دول العالم الثالث، الأمر الذي دفعها الى الاقتناع بأن عليها أن تثبت أن لديها أسناناً قوية حقيقية قبل أن تتمكن من انتزاع تنازلات فعلية من الدول المتقدمة، ولاحت الفرصة عقب حرب أكتوبر.

 

ففي ثنايا هذه الحرب، برز تكتل الدول المصدرة للنفط، ولاحت فرصة حقيقية لتصحيح الخلل في ميزان القوة المختل بين الشمال والجنوب، وتمكنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، في سياق قوة الدفع الجديدة التي خلقتها تلك الأجواء، من إصدار «إعلان في شأن إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد» مصحوب ببرنامج عمل، أعقبه لاحقاً «ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية». غير أن قوة الدفع هذه ما لبثت أن تلاشت بسبب فشل العالم الثالث في الحفاظ على تماسكه واستمرار التفافه حول عالم عربي راح يتفكك. فقد بدأت دول الشمال تفيق من هول الصدمة وتمارس سياسات فعالة لترشيد الطاقة والبحث عن مصادر بديلة، وما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأ عالم الشمال يستعيد تدريجياً سيطرته الكاملة على سوق النفط العالمية، وبدأت ضغوط أميركية هائلة تمارس على منظومة الأمم المتحدة، جسّدها الانسحاب من الـ»يونيسكو» والامتناع عن دفع حصتها في ميزانية الأمم المتحدة نفسها..الخ. وفي هذه الأجواء، تم استدراج العراق وإيران لحرب طويلة الأمد، وما كادت تنتهي حتى تم استدراج العراق لغزو الكويت، وجميعها بلاد نفطية، قبل أن تكتمل الدائرة الجهنمية بتفكك الاتحاد السوفياتي وانهياره، الأمر الذي أفسح المجال للولايات المتحدة للانفراد بالهيمنة على نظام عالمي اختفى منه تكتل العالم الثالث أيضاً.

 

في عالم أحادي القطبية تتسارع فيه معدلات العولمة، كان من الطبيعي أن يخفت الحديث عن صراع الشمال والجنوب وعن الحاجة إلى نظام اقتصادي عالمي جديد، وعن تصحيح خلل كامن في شرط التبادل الدولي، واستحال فيه إلزام الدول المتقدمة بالوفاء بوعودها، خصوصاً ما تعلق منها بنسبة المعونة المتفق عليها، ومن ثم راح الحديث يتجه نحو كيفية الاستفادة من آليات العولمة لعلاج مظاهر التخلف، لا جذوره وأسبابه… الخ. وفي سياق كهذا، بدأت منظومة الأمم المتحدة تتحدث عن تنمية مستدامة «تلبي احتياجات الحاضر من دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة»، وراحت تنظم مؤتمرات عالمية كبرى لوضع خطط لهذا الغرض، كان آخرها خطة نيويورك التي يفترض أن تنتهي في 2030.

 

أدعو القارئ كي يتأمل معي بعضاً من الأهداف السبعة عشر لهذه الخطة، لعله يدرك إلى أي مدى تبدو غارقة في الرومانسية. فالهدف الأول يتحدث عن «القضاء على الفقر بجميع أشكاله في كل مكان»، والثاني: عن «القضاء على الجوع وتوفير الأمن الغذائي»، والثالث: عن «تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار… الخ. أما العاشر: فيتحدث عن «الحد من التباين داخل البلدان وفي ما بينها». لكن كيف وبأي وسيلة؟ لا أحد يعرف بالضبط. صحيح أن في العالم الثالث دولاً تمكنت حكوماتها بالفعل من تهيئة شروط التنمية، ومن ثم نجحت في تقليل نسبة الفقر في بلادها وفي تحسين الوضع الإنساني لشعوبها، في مقدمها الصين التي تمثل وحدها خمس سكان العالم.

 

لذا علينا أن ندرك أن الفضل في خفض أعداد الفقراء في العالم يعود إلى جهود هذه الدول والحكومات وليس إلى خطط الأمم المتحدة في مجال «التنمية المستدامة». أما القول بغير هذا فينطوي على قدر كبير من التدليس لا يجوز. ولأن معظم دول العالم الثالث الأخرى لم تتمكن بعد من تهيئة شروط التنمية، فستبقى فيها أعداد غفيرة من الفقراء المعدمين الذين سيزيد عددهم باستمرار. لذا أعتقد جازماً أن «التنمية المستدامة» لن تحقق أهدافها المشروعة على المستوى الكوني إلا إذا توافر شرطان:

 

1- حكومات ممثلة لشعوبها تتّسم بالكفاءة ونظافة اليد، وهو ما فشلت معظم دول العالم الثالث في تحقيقه حتى الآن.

 

2- نظام فعال للأمن الجماعي، ببعديه السياسي- الأمني والاقتصادي – الاجتماعي، وهو ما فشلت الأمم المتحدة في تحقيقه ولن يكون في مقدورها تحقيقه إلا بإصلاح جذري لمؤسساتها لم تتوافر شروطه الموضوعية بعد.

 

* كاتب مصري