IMLebanon

اليمن من الوحدة إلى الانقلاب (2)

اليمن من الوحدة إلى الانقلاب (2)

محاولة استدراك الموقف.. بعد فوات الأوان  

شغلت مسألة الوحدة حيّزاً مهماً من اهتمام «الحزب الاشتراكي اليمني» الحاكم في الجنوب، وخصوصاً في الفترة التمهيدية لها. وتراجع الجو «الرومانسي» لصالح البرغماتية، والحسابات والتحسّب. وعندما تقدّم الشمال بمشروعه للوحدة «الاندماجية»، ازداد النقاش احتداماً داخل صفوف السلطة الحاكمة في الجنوب، وخرج إلى العلن رأي عبّر عنه في الإعلام حيدر أبو بكر العطاس (رئيس الجمهورية في الجنوب آنذاك) يدعو إلى البرغماتية، ويطرح عبر الصحافة ما يشبه «الوحدة الكونفدرالية» كمرحلة انتقالية.. لكن هذه البرغماتية، اصطدمت باستعجال عدد من القياديين الجنوبيين كان أبرزهم علي سالم البيض (أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني آنذاك) كما اصطدم بالضغط الشمالي الاندماجي.. وبالمراهنات في كلا الجانبَين المأزومَين، بأنّ الوحدة سوف تشكّل المخرج من المآزق..

تستكمل هذه الحلقة بحث السيرورة الوحدويّة وتبدأ في الغوص في بعض المشكلات والتأزّمات التي تلت الوحدة الإندماجيّة، وتباشر بمراجعة التعقيدات الخطيرة التي تلت صيرورتها.

النهج الذي ساد في تقييم الحزب «الاشتراكي» اليمني للمرحلة عبَّر عن نفسه بالقول – الموقف المنسوب لعبد الفتاح اسماعيل الشخصية المركزية في الحزب سابقاً (والذي قتل في أحداث 1986): الجنوب لم يبنِ الاشتراكية ولم يكن ذلك ممكناً ضمن الإطار القطري أصلاً، والشمال لم يبنِ نظاماً رأسمالياً عصرياً، والشطران يواجهان المهمات ذاتها التي لا يمكن حلّها إلا ضمن إطار الوحدة. نعم اتّخذ القرار بالوحدة.. لكن أي وحدة؟ ففي أيلول/سبتمبر من عام 1989 أي قبل ثلاثة أشهر من إعلانها، تبادل البلدان مشروعيَن بشأنها عبَّرا عن نفسيهما على الوجه التالي:

تقدَّم الشمال من خلال رئيسه علي عبدالله صالح بمشروع وحدة اندماجية؛ أما المشروع الجنوبي الذي قدَّمه الرئيس حيدر أبو بكر العطاس، فكان أقرب إلى الصيغة الكونفدرالية حيث ينص البند الأول على ان «يحتفظ الشطران بهويّتهما السياسية الخارجية والداخلية»، ويقول البند الثامن: «يعتبر الاتحاد شكلاً من أشكال الانتقال إلى حين توفير الشروط بالعمل بدستور دولة الوحدة». وفي شهر أيلول/سبتمبر نفسه اعتبر الرئيس الجنوبي فيي حديث إلى مجلة «اليوم السابع» أن «الواقعية تفترض الوصول خطوة خطوة إلى وحدة الشعب اليمني، والخطوات الملموسة التي يمكن تحقيقها على الأرض، فهي ليست بالكمّ الكبير من الوثائق التي يتم توقيعها، وليست الأحاديث الطويلة أو الخطب الرنّانة. إنها الخطوات الملموسة على صعيد توحيد قدرات الشعب اليمني وإمكانياته وتشابك مصالحه الاقتصادية والاجتماعية في أدق تفاصيلها». كما أنّ أوساطاً قيادية في الحزب «الاشتراكي» أكدت في مجرى الأزمة التي سوف تقود إلى حرب 1994، أنّه كان ممكناً الوصول إلى صيغة فدرالية تشكّل حلاً وسطاً بين الصيغة الاندماجية التي يطلبها الشمال والصيغة الكونفدرالية التي يطرحها الجنوب، وهكذا إذاً، الحزب يوقّع على صيغة وحدويّة اندماجية، بينما عضو مكتبه السياسي (رئيس الجمهورية) يفضّل صيغة الخطوة خطوة.. وعندما تبدأ الوحدة تصطدم بالمصاعب الجديدة – تنحو بعض أوساط الحزب إلى الفيدرالية، أما أمين عام الحزب علي سالم البيض فعقب بدء المواجهة العسكرية يعلن الانفصال في 21/5/1994.. يقيناً منه أنها التجريبية في مجرى أزمة وطنية لا تحتمل التجريب. ما الذي جرى على الأرض، كيف مورست هذه التجربة الوحدوية التي كان ينظر لها من خارج على أنها واعدة؟ وكيف يقتتل اليمنيون بعد أن توحّد وجدانهم الوطني تحت علم واحد في دولة مركزية واحدة؟ ليس ممكناً الاجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كثير، إلا من خلال معاينة التجربة الوحدوية كما مورست وليس وفق الشعارات القَبليّة، والرهانات المتناقضة والمضمرات غير الواقعية. وبشكل أدق إنها إخفاق النظام الذي تمَّ بناؤه خلفاً لما سلف. نظام لم ينطوِ على صمّام أمان يتمثّل بمؤسسات راسخة لُحمتها وسداها الديموقراطية الموعودة! وتجدر الآن الإشارة إلى ما كان عليه الوضع الاقتصادي في الشطرين عشية الوحدة والذي شكّل، على كلّ من النظامَين ضغطاً حقيقياً دفع باتجاه الاعتقاد بأن لا وقت لمزيد من التأني، وأنّ الوحدة الاندماجية وليس سواها ما سوف يُشكِّل رافعة التنمية في يمن موحّد.

القاسم المشترك.. تردّي الاقتصاد

إنّ تردّي الوضع الاقتصادي، شكّل قاسماً مشتركاً بين الشطرين، حيث بانَ قصور الأداء الاقتصادي لكلا التجربتَين وعدم قدرتهما على تحقيق أهدافهما الاقتصادية الطموحة التي نصَّت عليها الخطط التنموية في كل منهما على حدة، ولا سيما في ضوء ندرة الموارد المتاحة ذاتياً وسوء استخدامها، وتقلّص الموارد البديلة الآتية من مصادر خارجية.. لقد فاقم من هذه الأزمة حجم الإنفاق العسكري الذي وصل إلى نسبة 37% من الإنفاق الجاري في الجنوب، ونسبة 30% في الشمال، عام 1987. وتقلّص حجم الموارد الخارجية المترتّبة على ترحيل العمالة اليمنيّة في ضوء أزمة الخليج الثانية وشحّ أو انقطاع المساعدات أو القروض الخارجية، وقد مسَّ هذا الجانب الشطر الشمالي بشكل خاص. وفي العام 1987 نفسه بلغ العجز منسوباً إلى الناتج الإجمالي في الجنوب 35 بالمئة، ونسبة 14 بالمئة في الشمال. كما بلغ الاعتماد على الموارد الخارجية لتمويل عجز الموازنة نسبة 60 في المئة في الجنوب. وعام 1989 بلغ التضخم نسبة 12 بالمئة في الشمال، بينما استقرَّ عند نسبة 3 بالمئة في الجنوب. وعانى الشطران من ثقل الدَين الخارجي الذي بلغ 2,1 ملياري دولار في الجنوب، ونحو 3 مليارات دولار في الشمال. وعانى الشطر الشمالي انخفاض سعر الريال من 8,9 ريال يمني للدولار عام 1987 إلى حوالي عشرين ريالاً للدولار عام 1990.. وهبطت قيمة التحويلات من العاملين المغتربين الشّماليين إلى 355 مليون دولار عام 1989، مقارنةً برقم قياسي وصل 1,2 مليار دولار في العام 1982… أما الدينار في الشطر الجنوبي فإن محافظته على ثبات سعر الصرف لم تكن تعكس ثبات القدرة الشرائية بل قرار الدولة بتحديد سعر صرف ثابت… وسوف يتم التطرّق في هذا الملف لاحقاً ولو لماماً إلى نتائج الوحدة على التنمية.

ومثلما داعب حلم التنمية، آمال وطموحات الشعب اليمني من خلال الوحدة، فقد داعبت مخيّلته آمال عريضة كذلك؛ فعدم الاستقرار السياسي في كل من البلدين، وعدم استقرار العلاقة بينهما على قاعدة التعاون والتكامل، وأقلّها حُسن الجوار، جعل شرائح واسعة من الشعب اليمني تعتقد أنّ الوحدة، بالإضافة لكونها مسألة وجدانية، سوف ترفع عن كاهلها عبء التوتر الثقيل شبه الدائم، وتجلب لها الاستقرار. ثم إنّ المقترحات التي سبقت الوحدة كانت تعدها جميعها بالحريات السياسية المفتقدة وبالتعدّدية في ظل ديموقراطية تحميها مؤسسات دستورية وتحتمي بها. كما كان هناك رهان على أنّ الوضع الجديد سوف يقود إلى تشكّل سياسات متقاطعة جديدة تتوضّح فيها خطوط الموالاة والمعارضة وتستقيم بذلك الحياة السياسية. والسؤال الطبيعي الذي يطرح نفسه، وهو سؤال تمليه، ليس فقط التصورات الجاهزة لبناء دولة القانون والدستور والديموقراطية بناءً على نماذج عديدة، بل خصوصيات اليمن الموحّد الجديد؛ وما يجعل السؤال أكثر إلحاحاً، هو ضرورة الإجابة الموضوعية عن الأسباب التي قادت الأوضاع في اليمن إلى ما هي عليه الآن وهي خطيرة ومأسوية بالتأكيد، والتفتيش عن الأسباب في بنية الدولة الوليدة، قبل التفتيش عنها في الإقليم أو في الوضع العالمي رغم أهميّة الوضعَين وأثرهما الزاخم. فكيف أعاد اليمنيّون تركيب دولتهم؟

الوحدة دغدغت الأمل بالديموقراطية

لا مراءً بأنّ الوحدة اليمنية، رغم كل الملابسات التي أحاطت بها والتي مرَّ ذكر بعضها سابقاً، قد أضافت جديداً نوعياً على المشهد الجيوسياسي في المنطقة، أي منطقة الخليج والقرن الأفريقي، وأضافت عنصر إطمئنان وأمان نسبي عندما سمحت بترسيم الحدود مع بلدَين عربيَّين، سلطنة عمان شرقاً والمملكة العربية السعودية شمالاً. وبذلك أغلقت الجمهورية الوليدة بصورة سلمية وعقلانيّة جرحَين غائرَين في الوجدان اليمني ووجدان الجارَين، وسمح للتطبيع أن يأخذ مجراه وللمصلحة المشتركة أن تبدأ بالبناء على قاعدة العقلانية؛ مع أنّ الموقف الرسمي اليمني المنحاز، وأقلّه الملتبس من غزو صدّام حسين لدولة الكويت قلَب الأمور رأساً على عقب، لكن لذلك سياقاً آخر.

أما في المدى الداخلي، فقد أعطت الوحدة للشعب اليمني ولنخبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حافزاً وأملاً، ليس فقط بتجاوز التشطير وما رافقه من خيبات وخسائر على الصعد كافة، بل إنّها دغدغت الأمل بمستقبل واعد بالديموقراطية والتنمية.. بل إنّ جزءاً من النخب راوده الأمل في أنّ البلاد تخطو نحو التخلّص من «سيئات» النظامَين السابقَين، وتجمع ما كان «إيجابياً» فيهما وتنطلق نحو تجربة سياسية جديدة واعدة.. خصوصاً أنّ البلاد تبنّت دستوراً جديداً يكرِّسها دولة «ديموقراطية تشاركية»، دستوراً يكفل المساواة في دولة قانون ويصون الحريات، ويكفل استقلال القضاء، وأنّ السلطة تنبثق عن برلمان ينتخبه الشعب بحريّة، وأنّ حق الاقتراع مكفول لكل مواطن يمني بلغ ثمانية عشر عاماً.. وإنّ الدستور يكفل حق وحرية تشكيل الأحزاب السياسية، وإنشاء الروابط السياسية على أنواعها، كما الحرية في تشكيل منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية… صحيح أنّ مصدر التشريع في الدستور كان مثار جدل، وقد تمَّ تثبيت نص يقضي بأنّ الشريعة «مصدر رئيس للتشريع»، خلافاً لنصه على أن الشريعة «المصدر الوحيد» للتشريع (وهذا ما سوف يجري الانقلاب عليه بعد حرب 1994)، فإن جزءاً من النخب اعتبر الأمر حلاًّ وسطاً مقبولاً يفتح على التطوير نحو التشريع المدني.. وصحيح أنّ الدستور كان ملتبساً بشأن درجة استقلالية السلطات المحلية المنتخبة وإذا ما كان المسؤولون الأوّلون فيها ينتخبون بدورهم أم إنهم يعيّنون من قبل المركز.. وتمَّ تجاوز ذلك باعتباره واحداً من التباسات المرحلة الانتقالية سوف يجري تجاوزه بالحوار والتجريب.. لكن الوضع، مع الأسف، كان أكثر تعقيداً على الأرض، كما أكثر مدعاة للحذر.. صحيح أنّ انتخابات عامة قد جرت قبيل الوحدة في كلّ من البلدين وتمّت في ظروف مقبولة من الانفتاح والتعدّدية، لكن الوحدة التي تمت بصورة تعاقدية بين الكيانين، وتمّ الإصرار السياسي والقانوني على كونها وحدة اندماجية، لم تكن فعلاً كذلك ولم يجرِ دمج الجيشين ولا المنظومة الأمنية ولا الجهاز الإداري فعلياً، والمجلس الرئاسي الخماسي الذي تشكّل ليحكم البلاد برئاسة علي عبدالله صالح ونيابة علي سالم البيض الذي كان قد وقّع على الوحدة كأمين عام للحزب «الاشتراكي»، كان مؤسسة أقرب ما تكون إلى الهيكلية الشكلية وليس هيئة عمل جماعي.. والسلطة الفعلية بقيت للرئيس صالح في الشمال أساساً وفي الجنوب نسبياً، كما بقي نائب الرئيس البيض يحوز، من خلال الجيش الجنوبي والأجهزة الأمنية والإدارية على سلطة واسعة في الجنوب كما سوف تظهر انتخابات عام 1993. وأحدث الحزب «الاشتراكي» خروقات أو هو حافظ عليها في بعض مناطق الشمال وبالأخص محافظة تعز والمنطقة الوسطى. وقد شهد الجنوب بفعل الخصخصة وعوامل أخرى «هجمة شمالية» على الأرض والممتلكات العامة، واشتكى جنوبيّون كثيرون من العزل والتمييز في الوظائف، ومن إهمال مدينة عدن وتهميشها وهي التي كانت قد أُعلنت العاصمة الاقتصادية للبلاد.. وعملياً في ظل المركزية الرسمية كانت هناك «تعدّدية سلطوية»، (والتعبير للباحثة سارة فيليبس في دراسة مهمة بعنوان: «اليمن: مركزية العملية»، في كتاب «ما يتعدى الواجهة»).

المرحلة الانتقالية

الواقع كان يقول غير ما تقوله النصوص، وما تبدو عليه المؤسسات الدستورية؛ والمعضلة، في أبرز جوانبها، أنّ الفيدرالية التي كانت مرفوضة كإطار للوحدة، مورس ما هو أدنى منها في ظل الوحدة الاندماجية؛ فالجيش جيشان والإدارة إدارتان، والوضع يتميّز بالتربّص في ظل ممارسات جرى ذكر بعضها وسوف تستفحل لاحقاً. لقد وصفت المرحلة بين عامي 1990 و1993 بالمرحلة الانتقالية، وهي مرحلة يقول الواقع، كما تقول الواقعية ضمن ظروف اليمن إنما لم تكن كذلك، فهي لم تنكبّ على معالجة مهام الانتقال، هذا إذا وضع جانباً التربّص وسوء النيَّة. وسوف تشهد هذه المرحلة أحداثاً يمنيّة سياسية مهمة، لعلّ أبرزها تأسيس حزب «التجمّع اليمني للإصلاح» على يد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر زعيم قبيلة «حاشد» في 13/أيلول سبتمبر 1990، أي بعد إعلان الوحدة بشهور معدودة، وتشكّل من مكوّنات قبلية و»إخوانية» و»سلفية» وأعلن عن نفسه «حزباً إسلامياً»؛ واللافت للنظر كان رفده من قبل حزب «المؤتمر الشعبي»، حزب الرئيس صالح بكوادر قيادية معروفة؛ وسوف يشارك الحزب في الانتخابات البرلمانية العامة لعام 1993 ويحصل على 62 مقعداً برلمانياً ويحلّ ثانياً بعد حزب المؤتمر (123 مقعداً) ويتقدم على الحزب «الاشتراكي» الذي حصل على 56 مقعداً، وحلَّ بذلك «الاشتراكي» ثالثاً في المجلس التشريعي للبلاد المنبثق عن هذه الانتخابات.

وتصرَّف الرئيس صالح كما لو كانت نتائج الانتخابات فرصة وجب استغلالها فوراً فشكّل حكومة إئتلافية من حزب «المؤتمر» و»التجمع اليمني للإصلاح» مستثنياً الحزب «الاشتراكي» منها، وهو شريكه في الوحدة وشريكه في المرحلة الانتقالية. ورفض عرضاً «اشتراكياً» لاستمرار الشراكة بينه وبين حزب «المؤتمر». ورأى صالح أنّ الفرصة قد لاحت لترسيم العلاقة التحالفية مع حزب «التجمع اليمني للإصلاح» بما يوفّره له من تعزيز الدعم القبلي («الحاشدي» على الأقل) والدعم «الإسلامي» من خلال «الإخوان» والتيار السلفي غير الجهادي (أو بعضه)؛ علماً أنّه لو تمَّ التعامل مع نتائج الانتخابات بروح المسؤولية الوطنية، أي المسؤولية عن عموم الوطن، من قبل الرئيس، لكان عليه أن يتعامل بموضوعية ومسؤولية، مرة أخرى، مع الواقعة الحقيقية التالية: لقد أعطى الجنوبيّون للحزب «الاشتراكي» اليمني 46 مقعداً نيابياً عام 1993، أي إنّهم منحوه انتصاراً كاسحاً بمواجهة حزب «المؤتمر» و»التجمع اليمني للإصلاح» والمستقلّين مجتمعين، على الرغم من كل معاناتهم السابقة مع حزبهم الحاكم بانقساماته الدموية المتكررة والمكلفة وانعزاله، وهذا التفويض الوازن، لم يكن، تماماً، مكافأة على ماضي الحزب «الاشتراكي» معهم بل استدراكاً لما عانوه في ظل المرحلة الانتقالية الممتدة حتى الانتخابات النيابية.

إنَّه جرحٌ جنوبي، كان على رئيس اليمن الموحّد أن يدرك مغزاه ليداويه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بالتي هي أحسن، وليس أن ينكأه من خلال خبرته المشهودة والطويلة في التناور السياسي، ومن خلال سياسة «الرقص على رؤوس الثعابين» كما كان يحب أن يكرّر! لقد اختار التمترس والاستقواء بتحالفه الجديد وبقوته الذاتية من خلال حزبه وأجهزة الدولة السياسية والعسكرية والأمنية، ومن خلال الصلاحيات التي يعطيه إياها الدستور على الصعيدَين الاقتصادي والمالي، لينطلق منها في ممارسة سياسة الهروب إلى الأمام، مما ساهم، وإلى حدود بعيدة، بتشريع الأبواب أمام حرب عام 1994 التي تحوّلت سريعاً وواقعياً إلى حرب «شمال-جنوب»، والتي أسماها بعضهم حرب الانفصال، وبعضهم الآخر حرب «الوحدة ضد الانفصال».

هذا لا يعني أنّ الجنوب، وتحديداً الحزب «الاشتراكي»، كان بريئاً تماماً من «دم ابن يعقوب». لقد تقاسم الطرفان مسؤولية دفع الأمور إلى حدود الانفجار؛ فقد تأخر «الجنوبيون» في الانفتاح على «القوى الشمالية» ونسج العلاقات المجزية والمستدامة معها، بمن فيها الحزب الأغلبي في الشمال، وتلكّأوا وتهيّبوا طويلاً من التعاطي مع مشكلات الشمال التي تتجاوز في تعقيداتها وحساباتها وموازين قواها ما ألِفَه الجنوبيّون. والأهم والأخطر من ذلك أنّ القيادة الجنوبية للحزب «الاشتراكي»، وعلى وجه الخصوص القيادة الأولى، تصرّفت مع قضية مركزية (أو هكذا تنظر إليها غالبية الشعب اليمني) بعقليّة «المستغني»، أو بعقليّة من تمَّ «جرُّه إلى الجنّة بالسلاسل».. وخصوصاً بعقليّة من يملك خيار «قرار الانفصال» كسلاح رادع يمكن أن يشهره في وجه الخصوم في كل مناسبة وما أكثر المناسبات! ويجب ألا يفهم من ذلك افتعال المساواة في المسؤولية عن الحرب التي ستنفجر عام 1994؛ المسؤولية مشتركة ولكن العبء الأكبر منها يقع على عاتق المركز الشمالي الذي دفع باتجاهها، وهو مَن بادر إلى البدء بها على أية حال.

النصف الثاني من العام 1993، والنصف الأول من العام 1994 تميّزا بازدياد التوتّر بين الطرفين وبكثافة الوساطات والمبادرات. ففي 11 أيار/مايو 1993، أي بُعيد الانتخابات النيابية الأولى التي تلت الوحدة (نيسان/ابريل 1993)، اتّفق حزبا «المؤتمر» و»الاشتراكي» على الاندماج في حزب واحد، لكن الاتفاق لم يصل إلى خاتمة فعلية كما هو معروف؛ أمّا فكرة وحدة الحزبين في الإطار اليمني الملموس، فكانت تنطوي على أكثر من مغزى: حزب «التجمع اليمني للإصلاح» الذي حلَّ ثانياً في الانتخابات كان يطمح لأن يكون الشريك الثاني في السلطة بديلاً من»الاشتراكي»؛ و»الاشتراكي» كان يرى في ذلك انتقاصاً من دوره كشريك في الوحدة. أما حزب «المؤتمر الشعبي»، فاعتبر أنّه أصبح لديه الخيار في تشكيل حكومة بمعزل عن الاشتراكي أو بوجوده كشريك ثالث، لكنه يرتضي بوحدة الحزبين الاندماجية كامتداد للوحدة الترابية الإندماجية؛ هكذا تستمر الشراكة ومفترض أن يرضي ذلك «الاشتراكي». وفي رأي كثيرين أنّ الترتيب (اندماج الحزبين)، يشكّل اعترافاً ضمنياً، بأن مدة المرحلة الانتقالية لم تكن كافية، ولم تستغل لإجراء الإصلاحات المطلوبة. ثم أنّ الاتفاق نفسه، بدا كلعبة سلطوية فوقية أخرى لا رأي للشعب بها؛ إنه إتفاق فوقي آخر لم يتم التفويض بشأنه لا حزبياً ولا شعبياً؛ فالجنوب الذي أعطى الحزب «الاشتراكي» تفويضاً كاسحاً في الانتخابات، إنما فعل ذلك على قاعدة برنامجه الذي رأى فيه جزءاً من طموحاته وعصبيّته المستمرة أو الوليدة على ضوء تجربة سنوات الوحدة، وإلا لكان التفويض الكاسح هذا لحزب «المؤتمر» أو سواه؛ والشمال كذلك، لو كان مع هذا التفويض، لكان أعطى «الاشتراكي» أكثر من المقاعد العشرة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.. ثم إنّ كل ذلك، يبدو أنّه لا يأخذ في الحسبان، بما فيه الكفاية، مركز الثقل الأساس والحقيقي في السلطة ألا وهو علي عبدالله صالح، الذي لم يجرِ الاتفاق بدون علمه وقراره بالتأكيد، وهو بلا شك كان يرى في اليد ورقة ضغظ إضافية تساعده في مساومة الأطراف السياسية الأخرى وخصوصاً «التجمع اليمني للإصلاح». ولا جدوى من التمحيص في ما إذا كان الحزب «الاشتراكي» نفسه مقتنعاً بهذه العملية، فالاتفاق لم يفضِ إلى شيء، ومثَّل حدثاً عارضاً، وسوف تتجاوزه عوامل الأزمات المتعاقبة الدافعة باتجاه الصدام المسلّح.