IMLebanon

لبنانُ في مَدارٍ أمنيٍّ جديد

يعيش لبنانُ حالةَ انفصامٍ بين تحييدِه وتوريطِه في حروبِ المحيط. أصدقاؤنا في العالمِ العربيّ والعالم ميّزوا ـ حتى الآن ـ بين الدولةِ اللبنانية والشعبِ اللبناني من جهة، وحزبِ الله وأنصارهِ من جهةٍ أخرى. عامَلوا لبنانَ على أساسِ أن الحِيادَ الإيجابيَّ هو سياستُه الرسميةُ المعهودةُ منذ الاستقلالِ سنة 1943.

واعتبروا أن سلوكَ حزب الله هو موقِفٌ منفصِلٌ عن الدولةِ اللبنانية وباتَ، بعد حربِ 2006، مرتبِطاً بالصراعِ السُــنِّي ـ الشيعيّ بين العربِ والفُرس أكثرُ من ارتباطِه بالصراعِ مع إسرائيل.

حَرَصَت الدولُ الصديقةُ على إيجادِ أسبابٍ تخفيفيةٍ لضعفِ الدولةِ اللبنانية وأخذَت في الحُسبان تناقضاتِ التركيبةِ اللبنانيةِ فواصَلت دعمَ لبنانَ «الدولةَ المغلوبِ على أمرِها» ورَفضت غسْلَ أياديِها منه واعتبارَه «دولة فاشلة».

تَجنَّب أصدقاءُ لبنان الحكمَ المُبرَم بحقّه رغم تخلي الدولةِ عن دورِها وعلَّةِ وجودِها: تارة قالوا: لا حوْلَ للبنانَ ولا قوّةَ أمام المنظماتِ العسكريّةِ الفلسطينية، وطوراً قالوا: لا حوْل له ولا قوّةَ أمام الاحتلال الإسرائيلي، ومرّةً قالوا: لا حوْل له ولا قوّةَ أمام الاحتلالِ السوري. لقد ساعدَنا العالمُ أكثرَ من مرّةٍ للتخلّصِ من البُنيةِ العسكريةِ الفلسطينيةِ ومن الاحتلالين الإسرائيلي والسوري.

أما اليوم، فنلمُس تعديلاً سلبياً في الموقفين العربي والدولي تجاه لبنان، ونلاحظ أن المجتمعَين العربيّ والدوليّ تراجعَ عن نظريِة «لا حوْلَ للبنانَ ولا قوّة»، واستبدَلَها بقاعدةٍ أخرى: «ساعِد نفسَكَ يُساعدك العالم».

يَعود هذا التطوّرُ إلى شعورِ الدولِ الراعيةِ تاريخياً لاستقرارِ واستقلالِ لبنان، بأنّ دولةَ لبنان لا تساعدُ نفسَها، لا بل تَتْبع سياسةً تُعرّضُها لأخطارٍ شتّى، وليست أقلَّها المواجهةُ مع القراراتِ الدولية. ويَزدادُ القلقُ حين نَعلَم أن مسؤولاً دوليّاً كبيراً أبلغَ حكومةَ بلادِه إثْرَ عودتِه من بيروت بأنَّ لبنانَ دولةٌ عاجزةٌ عن تطبيقِ المضمونِ الحقيقيّ للقرارات الدولية رغم النيّةِ الحسنةِ لقيادتِه.

والحالُ أننا دولةٌ مريضةٌ. أمراضُنا نوعان: مُستعصيةٌ ومُزمنةٌ. نأينا بأنفسِنا عن التصدّي للأمراضِ المُستعصيةِ إكراماً لصيغةِ التعايش، وعالجْنا الأمراضَ المُزمنةِ بتسوياتٍ فَقَدت مفعولَها وتَحوَّلت بدورِها أمراضاً جديدةً فاقَت بضررِها الأمراضَ الأساسية.

ربَطنا صيغةَ التعايشِ بالدولةِ المركزيّةِ فَهَوت الأولى وتَرنَّحت الثانية. ورَبطنا التسوياتِ بحقوقِ الطوائف فأصبحت التسوياتُ بديلاً عن الدستورِ، والطوائفُ بديلاً عن الدولة.

منذ سنةِ 1943 والدولة اللبنانيةُ تتغاضى عن نشوءِ قِوى عسكريّةٍ رديفة.

ومنذ سنةِ 1969 والعالمُ يتغاضى عن دولةِ لبنان الضعيفةِ حِرصاً على الخصوصيةِ اللبنانيةِ في هذا الشرق. في الحقيقة لسنا بالأساسِ دولةً ضعيفة، بل دولة خسِرت توازنَها الأمني لشِدّة حِرصِها على توازنِها الطائفي، فلا ربِحت لا هذه ولا تلك. ولَكَمْ ضَحّت الدولةُ في العقود السابقةِ بأمنِ مواطنيها وامتَنعت عن حمايتِهم بواسطةِ قِواها الشرعيةِ خشيةَ إثارةِ بعض الطوائف.

ولمّا تَستَضْعِفُ دولةٌ نفسَها تُستَباحُ ويَنشأُ الأمنُ الذاتيّ والأمنُ المُستعار وسائرُ التسمياتِ وصولاً إلى بِدعةِ أنْ يَضعَ ممثّلو الطوائفِ، لا الجيشُ اللبناني الاستراتيجيةَ الدفاعية.

والظاهرةُ المُحزِنةِ في الواقعِ اللبناني أن اللبنانيّين الذين نجحوا، بطريقةٍ أو بأخرى، في تحريرِ بلادِهم من الجيوشِ الفلسطينيّةِ والإسرائيليّةِ والسوريّة، أي من الإخوانِ والأعداء، يَفشلون في بناءِ دولة.

وأنَّ اللبنانيّين الذين اختاروا تِباعاً البقاءَ معاً على أرضٍ واحدة، يَعجزون اليومَ عن ابتداعِ صيغةٍ جديدةٍ تُحوِّل البقاءَ الكَمّيَّ حياةً نوعيةً ووطنيةً وحضاريّةً في وطنٍ نهائي.

لقد بدأ يَتولَّد لدى عددٍ من دولِ القرارِ شعورٌ بأن الدولة اللبنانية (وليس هذا العهدُ تحديداً) بعدَ كلِّ العنايةِ والحماية، وبعدَ المِظلّاتِ الأمنية الحدودية، وبعد انسحابِ كلِّ الجيوش الغريبةِ منها، وبعدَ سلسلةِ تسوياتٍ دستوريّةٍ وسياسية، لا تزال تَتعثّر في عمليةِ بناء نفسِها وفرضِ هيبتِها الداخليةِ وسلطتِها. فالبؤرُ الأمنيةُ تَتمدَّد، والسلاحُ يعلو ولا يُعلى عليه، والجماعاتُ العاصيةُ على القانونِ تتحدّى الدولةَ، ومركزُ الصراعِ الفلسطيني

ـ الفلسطيني عاد إلى لبنان، إلخ.

وإذا كانت المؤسساتُ العسكريةُ والأمنية اللبنانية تُبْدِعُ في التصدي للإرهاب، فتحييدُ لبنان عن المخطَّطات الآتيةِ ليس مسؤوليةَ هذه المؤسسات، إنما يَستلزم قراراً سياسياً جامعاً، وهو غيرُ متوفِّرٌ بعد.

لذلك، يسعى العهدُ الرئاسي الجديد لإعادةِ رسمِ الحدودِ بين الدولةِ والآخرين، فأكد الرئيسُ عون في آخرِ مجلسِ وزراء أنَّ لبنانَ ملتزِمٌ بالقرارِ الدوليّ 1701 بُغيةَ طمأنةِ المجتمعِ الدوليِّ في الوطنِ والمهجَر وتبديدِ كلِّ التباس سابق.

وصل كلامُ الرئيس عون إلى واشنطن ونيويورك وباريس لكنه لم يَـصل إلى اليرزة؛ إذ سرعانَ ما شكَّكَ وزيرُ الدفاع، بقدرةِ الجيشِ اللبناني ليُبرِّرَ الحاجةَ إلى سلاحِ حزب الله.

هذا التحوّلُ العربي والدولي السلبي تجاه لبنان يترافق مع بروزِ ثلاثةِ أخطارٍ متداخلةٍ بعضُها بالبعض الآخر:

1) تسلّلُ إرهابيّي داعش والنصرة إلى لبنان بعد هزائمِهم في سوريا والعراق.

2) عودةُ التوتّرِ المدروسِ إلى المخيّمات الفِلسطينية.

3) دخولُ إسرائيل على خطِّ الأحداثِ والتسويات في سوريا وإيران واحتمالُ فتحِ نزاعٍ مع حزبِ الله، العائدِ مُظَفَّراً آجلاً أو عاجلاً من سوريا.

وفي هذا السياقِ يدور نقاشٌ جِديّ في إسرائيل بين القادةِ السياسيّين واركانِ الجيشِ حولَ أيّهما أفضلُ لأمنِ إسرائيل على حدودها مع لبنان:

الرهانُ على الدولةِ اللبنانيةِ أو على حزبِ الله؟ ملخَّصُ النقاشات أظهر أنَّ حزبَ الله قادرٌ، في حالِ التزمَ بالقرارِ 1701، على ضمانِ الأمنِ على الحدودِ اللبنانية الإسرائيليةِ على المدى القصير، لكنَّ الدولةَ اللبنانيةَ هي الضمانُ الحقيقي على المدى الطويل في حالِ استعادت سيطرتَها الفعلية جنوباً.

لكن، لا حزبُ الله مستعدٌ لتوفيرِ هذه الطمأنينةِ لإسرائيل، ولا الدولةُ اللبنانيةُ قادرةٌ في المدى المنظور على بسطِ سلطتِها وحدَها في الجنوب اللبناني. فكان الله عوناً للعونَيْن: الرئيس الجديد والقائد الجديد.