IMLebanon

بينَ فخرِ الدّين وبشير الجميّل… ملحمةُ بطولة

بقلم: الدكتور جورج شبلي

في مسيرةِ الذّكريات، تَغفو السّنونُ كالصَّمت، لِتَتَنَبَّهَ، بِشَغَفٍ، بينَ الحينِ والحين، على بَصمَةٍ تحفرُ في صَدرِ الزَّمانِ علامةً لا تُمَّحى. وفي تاريخِ الشعوب، محطاتٌ مِفصليةٌ أَبطالُها رِجالٌ تَعملَقوا في أزمنةٍ، وحدَهُ الخُنوعُ كانَ القاعدة. إنّ هذا التّوصيفَ يَسري على شخصيتين، من عندِنا، جمعَتهما قواسمُ المواجهةِ، والكبرياءِ الوطنيّ، والهدفِ السّامي، كما أنَ المصلحةَ، من اغتيالِهما، كانت واحدةً، أيضاً، وهما فخرُ الدّينِ الثانيّ، وبشير الجميّل.

أمّا الهمُّ الذي طغى على حراكِهما، معاً، فهو بناءُ دولة. لقد صمدَ فخرُ الدّينِ أمامَ جيشِ الإمبراطوريةِ العثمانية، وكذلك، أمامَ مُغرياتِها، فواجَهَ، وحالفَ، وتَسَلَّحَ، لتحقيقِ حُلمٍ انتقلَ إليهِ من والدِهِ الشّهيد، وغَذَّتهُ أُمُّهُ، بالتربيةِ، والتّنشئة. هذا الحُلمُ الذي رافقَ الأميرَ في مفاصلِ حياتِهِ السياسية، وشكَّلَ، بالتالي، هاجساً لدى البابِ العالي، هو مشروعُ قيامِ دولةٍ مستقلَةٍ في الإمارةِ المَعنيّة. وعندما وجَّهَ العثمانيون أحمد كُجُكْ باشا للقضاءِ عليه، كان الهدفُ من الحملةِ القضاءَ على نِيَّةِ بناءِ الدولةِ، تحديداً. والغريبُ أنّ فخرَ الدّين، إِبّانَ اعتقالِهِ في الآستانة، وحَسْبَ ما وردَ في مَخطوطةٍ لِمُؤَرِّخٍ عثمانيّ، موجودةٍ في المكتبةِ الوطنيةِ الفرنسية، تَوَصَّلَ الى إقناعِ السّلطانِ بأَحَقَيّةِ هدفِهِ، وكادَ أن ينالَ البراءةَ، لو أنّ خصومَهُ من أبناءِ وطنِهِ، الذين يخشَونَ على مصالحِهم منهُ، لم يفتعِلوا ثورةً في وجهِ السلطةِ العثمانية، ما دفعَ بالسلطانِ الى إعدامِهِ، فقضى شهيدَ الحلمِ بالدولة.

وبعدَ زمنٍ على هذا الحدث، أَنجَبَ الرَّحِمُ اللبنانيُّ شخصيةً لا تَقلُ وزناً عَمّا عُرِفَ عن فخرِ الدّين. فبشير الجميّل الرئيسُ المُناضِلُ، كان مسؤولاً، أمامَ نفسِهِ، والتاريخ، عن إِنجازِ مشروعِ الدولةِ في وطنٍ تتنازعُهُ استقطاباتٌ من كلِّ صَوب. لقد عاينَ بشير هذا الوطنَ المُفَكَّكَ، المُرتَهَنَ للتوازنِ البهلوانيّ، والذي ضَيَّعَ هويَّتَهُ، وكادَ يذوبُ في مساحاتِ أوطانِ الآخرين، فتَجَرَّأَ، وثارَ، وواجَهَ، وأَنطَقَ النّارَ، غيرَ عابئٍ بالقدراتِ اللّامُتكافِئةِ، وقناعتُهُ أنّ العَينَ سوفَ تُقاومُ المِخرَزَ، ولن تَعجَز.

أمامَ تَمرُّدِهِ الحديديّ، سقطَ الوَصِيُّ، ومعهُ المؤامرةُ التي استهدفَتْ لبنانَ، لتَستبدِلَ بهِ كياناً بِكيان. ونجحَ مُخَطُّطُ بشير الرّامي الى نشوءِ دولةٍ قويةٍ، قادرةٍ، حديثةٍ، منظَّمةٍ، مُنسجِمةٍ معَ مُحيطِها، وذاتِ سيادةٍ لا يَمِنُّ بِها عليها أحد. ونجحَ، أيضاً، برنامجُهُ لإِصلاحِ الخللِ الدّاخليّ، على مستوى تنظيمِ الإدارةِ، والمجتمع، سَنَداً الى مبادئِ العدالةِ، وأَحكامِ القانون. لقد أعلنَ بشير طَرحَهُ من دونِ مُوارَبَة، فَأَجْفَلَ القريبينَ، والأَبعدينَ، على حَدٍّ سواء، لكنّه كان مقبولاً من الشُّرفاءِ الذين وجدوا فيهِ أملاً لقيامِ الدولةِ التي، لطالما، انتظروها. فتَكَوكَبَ، حَولَهُ، الشعبُ بفصائلِهِ التَوّاقةِ الى السلامِ، والعيشِ الرّغيدِ. حتى إنّ خصومَهُ التقليديّينَ أشادوا بشخصِهِ، وقالَ أحدهم ” لأَوَّلِ مرّة، يَشهَدُ لبنانُ رَجُلَ دولة “.

لقد تميّزَ البشيرُ في تَوَجُّهِهِ الى الناسِ، بالقُدرةِ على الإقناعِ، والإستمالةِ، فذهبوا معهُ الى حيثُ يُريدُ، صارحَهم، ونطقَ بِما كَتَموا، وأَفرَجَ عن ضِيقِهم، وأعادَ الى نفوسِهم الثقةَ بِما فَقَدوا، أيْ بالوطنِ، والدولة. لم يكن لديهِ باطِنٌ وظاهِر، بل شفافيةٌ مُطلَقَةٌ، وكَشْفٌ جريءٌ عن أسلوبِهِ في التّعاطي مع القضايا، كبيرِها، وصغيرِها.

لقد دخلَ بشير الى القلوبِ، من دونِ استئذان، فحرَّكَ فيها الوجدانَ الوطنيَّ، والشعورَ بالإنتماء، لأنّ مشروعَهُ صاحِبَ الأولوية، كان بناءَ الدولة، الدولةِ المستقلَة. هذا الطّرحُ قَضَّ مضاجعَ الذين يُعِدّونَ للبنانَ مشروعاً نقيضاً، أي ساحةً متفجِّرةً تَشهدُ منازلاتٍ أبديةٍ، بينَ المُتصارعينَ الإقليميّين، وأولئك الذين استغلّوا غيابَ القانون، فأَمَّنوا مصالحَ جعلَتهم يتربَّعون فوقَ ثرواتٍ مشبوهة. وتَمَّ اغتيالُ الحُلمِ الذي لم يَدُمْ طويلاً، فأُدْخِلَ الوطنُ في غيبوبةٍ قسريةٍ، ضاعَ فيها التوازنُ، واختلَّ الوعي.

لقد داومَ بشير الجميّل على إعلانِ أنّه يُريدُ لبنانَ بمساحةِ ال10452 كلم مُربَّع، كاملةً دونَ أيِّ انتقاص، كما استمرَّ في إطلاقِ مشروعِهِ القائمِ على نشرِ الدولةِ فوقَ هذهِ المساحة، بكُلِّ ما لمفهومِ الدولةِ من سُلطةٍ، وهَيبة. وهذا يعني المواجهةَ بينَ حَقٍّ لا يَعلو فوقَهُ حَقّ، وبينَ أهدافٍ هجينةٍ يريدُ أصحابُها، من ورائِها، القضاءَ على كيانِ الوطن. وكادوا أن يَصِلوا الى ما أرادوا، بعدَ اغتيالِ بشير، لو أنَّ الذين آمنوا بالحُلمِ هَجَروه. وهنا تَكمُنُ ديمومةُ بشير الشّهيد، الذي استطاعَ أن يُشَيِّدَ في القلوبِ، والعقولِ، عَمارةَ الوطن، فانتصرَ على قاتِليه.

بشير، أيُّها الخالدُ في الضمائر، أَيُّ حَقٍّ لكَ، يُعْلَنُ، يومَ يُصَنَّفُ أَهْلُ الحَقِّ على الزّمان