IMLebanon

قوة النار الروسية… رسالة للقريب والبعيد

لم يكن من باب المصادفة أن يُعطي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأمر إلى حاملة الطائرات الوحيدة لدى الجيش الروسي «ادميرال كوزنيتسوف» بتدشين أولى عملياتها الحربية منذ وضعِها في الخدمة عام 1981 أيام الاتّحاد السوفياتي، وذلك بعد أقلّ من 24 ساعة على المحادثة الهاتفية التي أجراها مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب.

الواضح أنّ الفوز المفاجئ لترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية أعطى دفعاً قوياً لمشروع أولوية القضاء على «داعش»، وذلك قبل دخول ترامب فعلياً إلى مكتب الرئاسة الاميركية في البيت الأبيض وقبل تشكيل فريق عمله. لكنّ الصورة في واشنطن حول الإدارة الجديدة وسياستها بدأت تتّضح.

فالشخص الذي يوصَف بأنّه «قاهر المافيا الإيطالية» والمقصود به عمدة نيويورك السابق رودي جولياني هو الأوفر حظاً لتولّي حقيبة وزارة الخارجية في الإدارة الجمهورية الجديدة.

وتَردَّد في الأروقة الديبلوماسية أنه لا توجد شخصية أخرى من الحزب الجمهوري تنافس جولياني جدّياً على هذا المنصب. وتضيف الأوساط الديبلوماسية في معرض تأكيدها أنّ جولياني رفضَ اقتراحاً لتولّي منصب وزير العدل، ما يؤكّد ثقته بتولّي وزارة الخارجية.

جولياني الذي رفض تبرّعاً من أحد المتموّلين السعوديين بلغَ عشرة ملايين دولار، إثر اعتداءات 11 أيلول 2001، بعد مواقف له اعتبرَها جولياني تبريراً للهجمات، لخّصَ سياسة الإدارة الجمهورية الجديدة في الشرق الأوسط بالأولوية الآتية: محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) حتى القضاء عليه.

كلام جولياني جاء في عشاء أقامته صحيفة «وول ستريت جورنال»، مضيفاً أنّ «داعش» يمثّل على المدى القصير أكبرَ خطر ليس لوجوده في العراق وسوريا، ولكن لأنّه قام بشيء لم يفعله تنظيم «القاعدة» أبداً، حيث تمكّنَ مِن الانتشار حول العالم.

لكنّ الأهمّ أنّ جولياني لم يتحدّث عن الطريقة التي ستحارب بها الإدارة المقبلة هذا التنظيم، ما وضَعه البعض في إطار إبقاء الخطة غامضة لمفاجأةِ التنظيم، أمّا البعض الآخر فوضَعه في إطار عدم «شعبية» الخطة كونها ستَستند إلى الدور الروسي والجيش السوري والتعاون مع إيران، ولو من بعيد.

لكنّ باكورة العمليات العسكرية الروسية والتي اعتمدت على قوّة النار، وهي العقيدة التي تمتاز بها المدرسة العسكرية الروسية ترَكّزت على إدلب وحمص، فيما تمّ إطلاق صواريخ باليستية على مواقع في ريف حلب الجنوبي.

والواضح أنّ القيادة العسكرية الروسية تمهّد جوّياً للإمساك بكلّ محافظتَي إدلب وحمص وتأمين مستلزمات السيطرة على حلب. ويبدو أنّ موسكو تعتمد إبرازَ عضلاتها العسكرية بنحوٍ مرعب ليس فقط للقضاء على التنظيمات المتطرّفة بلا رحمة بل أيضاً لإظهار قوّتها أمام البعيد والقريب، بدءاً من واشنطن التي تراقب عن كثب القدرات العسكرية الروسية، وأوروبا التي لديها ملفّات عالقة مع روسيا، ومروراً بتركيا رغم العلاقات الجيّدة حاليّاً بينها وبين موسكو، وانتهاءً بالحلفاء حتى.

ذلك أنّ القيادة الروسية باتت تُمسِك بنحوٍ مطلق بكلّ المنطقة الساحلية السورية بذريعة حماية قاعدتَي طرطوس البحرية وحميميم الجوّية، وهو ما تعمَّد بوتين سؤالَ وزير دفاعه عنه أمام وسائل الإعلام، إضافةً إلى مدّ سيطرتها المباشرة على كلّ إدلب وخصوصاً حلب المحافظة التي تُعتبر مفتاحاً جغرافيّاً مهمّاً في توزّع النفوذ داخل الخريطة السورية.

والإمساكُ بطول الساحل أو المنفَذ البحري السوري مسألة مهمّة جداً ولكنّ السيطرة على محافظة حمص ستَعني الإمساك بالمفاصل البرّية الأساسية بما فيها الطريق الذي يربط بين إيران والعراق بلبنان.

في هذا التوقيت، جاء العرض العسكري لـ«حزب الله» في بلدة القصير القريبة من الحدود اللبنانية والتي شكّلت أولى ساحات قتال «حزب الله» في سوريا. عرضٌ عسكريّ نادر للحزب، والأوّل من نوعه على الأراضي السورية، وهو ما سَمح بأن يثير كلّ هذا الجدل الإعلامي حول الغاية من هذه الرسالة المبهمة.

وما زاد من شهيّة التحليلات أنّه حصَل بعد انتهاء الانتخابات الأميركية وتزامنَ مع تأليف الحكومة اللبنانية التي يعود إليها سعد الحريري الحليف الأوّل للسعودية في لبنان.

ولم تقتصر الإثارة الإعلامية لِما حصَل على وسائل الإعلام اللبنانية، بل شَملت وسائلَ الإعلام الإسرائيلية التي اعتبرَت أنّ إسرائيل هي المعنية برسالة «حزب الله»، إضافةً إلى وسائل الإعلام العالمية والاميركية. لكنّ مصادر ديبلوماسية اميركية معنية لم تفهَم المضمونَ الفعلي لرسالة العرض العسكري، «هذا إذا كان هنالك من رسالة».

وبخلاف الجلبة الإعلامية الحاصلة لتفسير «رسالة القصَير»، فإنّ هذه المصادر قرأت في ما حصَل تعزيزاً للمعنويات القتالية قبل معركة حلب لا أكثر، مشيرةً إلى وجود خطأ ما في الإعلان عمّا حصل، لأنّ «حزب الله» لا يحتاج لعرضٍ عسكري يضمّ آليّات أميركية قديمة للإعلان أنّه أصبح قوّة عسكرية كبرى تقاتل كما الجيوش النظامية على الأراضي السورية.

وتُرجّح هذه المصادر أنّ ما حصَل جاء بقرار محلّي للقوى التي تقاتل في سوريا وبمعزل عن وجود قرار مركزي مدروس، بدليل أنّ العرض العسكري كان خالياً من أيّ جمهور أو مشاهدين، وأنّ الصوَر التي وُزّعت كانت من عمل العناصر وليس من خلال تسريب فعلي ومتعمّد من القيادة.

لا بل فإنّ هذه المصادر تذهب أبعد من ذلك لتشير إلى أنّ قيادة «حزب الله» التي اعتادت أن تتعاطى بذكاء وحنكة مع رسائل من هذا النوع ربّما تكون قد وجّهت تدابيرَ مسلكية إلى الذين تسبّبوا بهذا الخطأ.

ذلك أنّ القيادة السوريّة بدت محرَجةً أيضاً، كون هذه القوّة ظهرت على الإعلام، وأنّها قد تكون أبلغَت إلى قيادة «حزب الله» مدى الإحراج الذي تعاني منه وسط المستجدّات الحاصلة على مستوى خريطة العمليات العسكرية.

في المحصّلة، إنّ ما حصَل في القصَير كان احتفالاً بمناسبة «يوم الشهيد» لدى «حزب الله»، ولم يكن رسالةً لا إقليمية ولا لبنانية، والأوساط الديبلوماسية الغربية مقتنعة بذلك.