IMLebanon

شيء ما سينهار .. هدوء الأسواق الطويل نذير عاصفة هوجاء

FinancialTimes
رالف أتكينز

بعد انهيار “بنك ليمان براذرز” في أواخر عام 2008، أصيبت الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم بالذعر. وبعد نحو ست سنوات ربما يشعر العالم بأنه لا يزال عرضة للصدمات الجيوسياسية والاقتصادية، لكنها تندلع بهدوء.

ارتفعت أسعار الأسهم العالمية إلى أعلى مستوياتها التاريخية، مع تسجيل مؤشر “فاينانشيال تايمز” لعموم العالم ومؤشر “ستاندرد آند بورز 500” أرقاما قياسية الأسبوع الماضي. وحتى الآن يبدو أن التقلبات قد اختفت. وأول الدلائل على ذلك، أن مؤشر فيكس – المعروف باسم “مؤشر الخوف في وول ستريت” – الآن بالقرب من أدنى مستوياته منذ سبع سنوات.

ربما تبدو الحياة هنيئة بالنسبة للمستثمرين، مع ارتفاع الأسواق والهدوء وانتهاء اضطرابات أزمات ما بعد عام 2007. الصدمات الجيوسياسية، مثل التوترات بشأن أوكرانيا، أوقفت لفترة وجيزة فقط المسيرة التصاعدية، على الرغم من أن مقاييس التقلب ارتفعت على خلفية أحدث أعمال العنف في العراق.

لكن مثل البحارة الذين يستشعرون عن بعد هدوء ما قبل العاصفة المقبلة، يحذر بعض قدامى المحاربين في الصناعة من متاعب يمكن مواجهتها مستقبلا في الأسواق العالمية. ويقول جورج ماجنوس، وهو مستشار اقتصادي أول لدى “UBS”: “أحد الدروس التي كان يجدر بنا أن نتعلمها هو أن الفترات الطويلة من التقلب المنخفض تعتبر جيدة في الوقت الحقيقي، لكنها تولد شيئاً أكثر ضرراً – ولا أحد يعرف متى تنفجر”.

تجنبت البنوك المركزية بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الكارثة وتحاول تحفيز الاقتصاديات المعتلة. لكن محمد العريان، الرئيس التنفيذي السابق لشركة “بيمكو”، يحذر من أن مخاطر الهدوء الاصطناعي تؤدي إلى “الإفراط في خوض المجازفة، والإفراط في الاستعانة بالرفع المالي، وسوء تخصيص الموارد، وزحام الصفقات الذي ينتهي بوجود سيولة محدودة بشكل مستغرب عندما تتحول الظروف”.

والدروس المستفادة من التاريخ الاقتصادي تنذر بالسوء. فقد سبق الأزمة عام 2007، التي بدأت في سوق القروض العقارية الأمريكية وأدت إلى انهيار “بنك ليمان”، تراجع في مستوى التقلب. وكذلك كانت الأزمة المالية الآسيوية عام 1997. وتشير البيانات التي أعيد بناؤها من قبل “بنك سوسيتيه جنرال” إلى أن انهيار “وول ستريت” في 1929 جاء بعد هدوء مماثل.

وبذلك هل يؤدي التقلب المنخفض إلى شعور زائف بالأمان، بينما عملت إجراءات الطوارئ المتبعة من قبل البنوك المركزية على إخفاء حالة عدم الاستقرار المتأصلة التي يمكن أن تسبب المتاعب مرة أخرى في المستقبل؟

لقد انتشر التقلب المنخفض في الأسواق كافة. والانخفاضات في مؤشر “فيكس” انعكست في مقاييس تقلبات أسعار الأسهم الأوروبية والآسيوية. وانخفض مؤشر مماثل للعملات العالمية إلى أدنى مستوى له منذ بدء تسجيل الأرقام القياسية في عام 2001. وكان تقلب النفط في أدنى مستوى له منذ عام 2007 – على الأقل حتى الوقت الذي أدى فيه الصراع في العراق إلى ارتفاع السعر. وأصبحت تحركات سوق السندات أيضا أقل حدة – سواء لسندات الخزينة الأمريكية، أو تلك التي تصدرها حكومات منطقة اليورو المأزومة.

ويقول سلمان أحمد، استراتيجي السندات العالمية لدى “لومبارد أودييه” لإدارة الاستثمارات: “انخفاض التقلب هو الموضوع الأكثر أهمية في الأسواق في الوقت الراهن”. والمشكلة هي أن لا أحد يتفق على مقدار القلق الذي ينبغي أن يشعر به المستثمرون وصناع السياسات. “من ناحية، لديك أولئك الذين يعتقدون أن هذا الأمر يعتبر ‘العادي الجديد’، ومن ناحية أخرى هناك أشخاص مثلي يعتقدون أن هذا الأمر لا يمكن أن يستمر”. ويضيف: إنه موضوع خلافي للغاية”.

ومن الواضح أن وجود كثير من التقلبات يعتبر أمراً سيئاً. فعندما ضرب مؤشر “فيكس” رقماً قياسياً في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، اضطر المستثمرون للخروج. لم يستطع مديرو الصناديق تحمل الخسائر التي يجري تحقيقها بشكل يومي، فهناك حاجة إلى بعض التقلبات لجعل الأسواق تعمل وردع المخاطرة المفرطة.

لكن المستويات الحالية المنخفضة من التقلبات ليست بالضرورة مؤشراً سيئاً. تقول ستيفاني فلاندرز، الاستراتيجية في “بنك جيه بي مورجان” لإدارة الأصول: “قد يشعر المستثمرون بالتهاون، لكن هناك الكثير بالنسبة لهم ليشعروا بالرضى حياله”. وتضيف: “التقلب المنخفض يعتبر انعكاساً لاقتصاديات حقيقية أقل تقلباً. لهذا السبب يمكن أن يكون أمراً جيدا،ً لكن إذا استمر التقلب منخفضاً للغاية لفترة طويلة، فقد يجعلك تقلق حيال كل الدعم الاصطناعي من البنك المركزي للأسواق”.

وعلى الرغم من أن مؤشر “فيكس” انخفض، إلا أن المخاوف لم تتراجع. ويستند المؤشر الذي يتم احتسابه من قبل سوق عقود بورصة شيكاغو للخيارات، على الخيارات التي تعطي المستثمرين الحق في شراء أو بيع أحد الأصول بسعر ثابت في وقت محدد في المستقبل. وإذا كانت الاقتصادات تسير على مسارات النمو البطيء، سيكون لأخبار تغيير السعر خطر أقل وسينخفض مؤشر “فيكس”. ويقول رامين ناكيسا، خبير التقلبات في “UBS”: “لا يعتبر “فيكس” مؤشر الخوف على الإطلاق. إنما هو مقياس تدفق المعلومات”. ويتابع: “عندما دخل رونالد ريغان إلى البيت الأبيض، ارتفعت السوق بشكل ملحوظ. لكن الأمر لم يكن مدعاة للقلق بل للفرح”.

إلى ذلك، انخفضت تقلبات السوق نتيجة لجهود الأجهزة التنظيمية لجعل النظام المالي أكثر أمناً، ما يجعل إجراء مقارنات مع الفترات السابقة من الهدوء أمراً صعباً. لقد زادت الإصلاحات منذ الأزمة المالية التكلفة على البنوك التي تقدم خدمات التداول وخفضت التداول على دفاترها الخاصة. وفي أسواق العملات، من شبه المؤكد أن التحقيقات التي تجريها الأجهزة التنظيمية في التلاعب المزعوم في المؤشرات المرجعية ضرب أيضاً أحجام التداول.

وهناك اختلافات أخرى مهمة مع الماضي، كما يجادل مارك تشاندلر، المحلل لدى “براون براذرز هاريمان”، الذي يقول: “على الرغم من أن الجهود المبذولة لردع تقلب آخر قد تساهم في انخفاض مستوى التقلب، إلا أن التجاوزات التي ترتبط بالأزمة المالية، مثل الاستفادة القصوى من الروافع المالية والتعرض المبهم للمخاطر خارج الميزانية العمومية لا يبدو أنه حاضر الآن”.

لكن ما يقلق الآخرين هو أن الأسواق أصبحت مشوهة بشكل خطير. وسعت برامج “التسهيل الكمي” الخاصة بشراء الأصول الواسع النطاق من جانب البنوك المركزية لتحفيز النمو الاقتصادي من خلال قيادة المستثمرين إلى الأصول ذات المخاطر العالية. ومنذ أوائل عام 2009، ارتفع مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” بنسبة 190 في المائة، وارتفع مؤشر “فاينانشيال تايمز” لعموم العالم بنسبة تصل إلى 150 في المائة.

فقط لأن مديري الأموال يجدون صعوبة أكبر بكثير في تحقيق الأرباح من خلال التداولات لا يعني أن الاقتصادات تعاني. لكن الأسواق لا تعمل بشكل طبيعي، كما يحذر السير مايكل هاينتسه، مؤسس “CQS”، أحد أكبر صناديق التحوط في أوروبا. ويقول: “المشكلة هي أننا لسنا هناك [في بيئة تقلب منخفضة] لأن الأسواق قررت هذا، ولكن لأن البنوك المركزية قد قالت لنا (…) ليس هناك مجال لأصوات المعارضة”. ويتابع: “خوفي هو حين يكون الجميع في المكان نفسه. عندما يسبب التغيير في المشاعر أقصى قدر من الاضطراب”.

ويضيف: “جمال أسواق رأس المال هي أنها أنظمة تصويت، والناس تصوت كل يوم مع محافظهم. الآن انتهى التصويت. لقد أملي علينا ما يجب القيام به من قبل محافظي البنوك المركزية – وسوف تخسر المال إذا لم تتبع أوامرهم”.

إحدى الإشارات التي تدل على أن الأسواق ليست بحال جيدة هي القصص المتضاربة من أسواق الأسهم والسندات. فمن ناحية يشير ارتفاع أسعار الأسهم إلى نمو اقتصادي أقوى، لكن العوائد على سندات الخزانة الأمريكية، التي تتحرك بشكل عكسي مع الأسعار، تراجعت هذا العام وعادة ما يكون هذا إشارة إلى توقعات بانخفاض معدلات النمو والتضخم. في الوقت نفسه، يبدو أن المستويات المنخفضة لمجمل تقلبات السوق تتعارض مع المخاطر الجيوسياسية الواضحة – سواء في بحر الصين الشرقي، أو حول أوكرانيا، أو في الشرق الأوسط.

وبحسب ماغنوس “مستويات الأسهم المرتفعة والسندات المرتفعة والتقلبات المنخفضة ظاهرياً تنقل الثقة – هذا الثالوث يعتبر معيباً على نحو جوهري. شيء ما سينهار. المسألة هي ماذا ومتى”. ويضيف: “تحاول البنوك المركزية إيقاف الأشياء السيئة التي تحدث في الأسواق. بذلك تشجع الناس على البقاء فيها، في حين ربما لا ينبغي لهم ذلك”.

ربما يتم قريباً امتحان الهدوء السائد – ليس فقط من خلال الأحداث في العراق. الاختلافات في سياسات البنوك المركزية قد تبدأ في إنشاء التقلبات. فقد أعلن البنك المركزي الأوروبي الأسبوع الماضي عن مزيد من التخفيضات في أسعار الفائدة وضخ سيولة جديدة في النظام المالي في منطقة اليورو. ويبقى “بنك اليابان” أيضا في حالة نشطة: وفقا لمستويات الشراء بالوتيرة الحالية، يقدر كريدي سويس أن بنك اليابان سيستحوذ على ما يقرب من 40 في المائة من سندات الحكومة اليابانية المستحقة من خمس إلى 10 سنوات بحلول آذار (مارس) المقبل.

في المقابل، أدى الاقتصاد الذي يتعافى بسرعة في المملكة المتحدة بمارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، إلى تقديم تحذير يوم الخميس مفاده أن أي زيادة في أسعار الفائدة “يمكن أن تحدث في وقت أقرب مما تتوقع الأسواق حاليا”. ويخرج الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أيضاً من تدابير السياسة التي اتخذها في عصر الأزمة عن طريق التخفيض التدريجي لعملية شرائه الشهرية للأصول.

وتقول فلاندرز: ” لقد استحدثت البنوك المركزية الآن هذه البيئة الهادئة، إنها تشعر بالقلق حيال كون ذلك علامة على التهاون”. وتضيف: “إنها ترغب في وضع المزيد من التقلب مرة أخرى في السوق، بحيث لا تراهن في اتجاه واحد، لكن لا يمكنها أن تخطط لكيفية تحقيق ذلك دون تعريض الانتعاش للخطر”.

في بداية العام الماضي، عادت تقلبات السوق إلى الظهور بشكل مؤقت، عندما ألمح الاحتياطي الفيدرالي أول مرة إلى خطط ترمي إلى “تقليص” التسهيل الكمي. لكن حتى في حال ارتفع مؤشر “فيكس” وغيره من مؤشرات تقلب السوق في الأسابيع والأشهر المقبلة، فإن الارتفاع في الأسهم والسندات في السوق العالمية قد لا يخرج عن مساره. يقول غريغ ديفيز، رئيس التمويل السلوكي في باركليز لإدارة الثروة والاستثمار: “كثير من الناس باعت في عام 2008 ومنذ ذلك الحين جلست على النقد، وهو أمر كان مكلفاً للغاية. سيكون من الصعب على المستثمرين تقبل فكرة قيام كويكب بضرب الأرض أو غزو أجنبي، لكن إذا استثنينا مثل هذه الكوارث الفائقة، عندما يزيد معدل التقلب (…) أفضل شيء نفعله هو الجلوس في مكاننا”.

لكن نادراً ما يكون المستثمرون عقلانيين تماما. ويحذر ديفيز: “لسوء الحظ، استجابة معظم الناس تكون بمحاولة فعل شيء حيال ذلك، ظناً منهم، على عكس الأدلة المتوافرة، أن بمقدروهم التفوق على توقعات السوق”.

والكثير يتوقف أيضاً على صانعي السياسة النقدية في العالم. ويقول السير مايكل، من “CQS”: “يعتقد محافظو البنوك المركزية كثيرا أنهم يستطيعون السيطرة على عمليات الخروج. لكن تذكر أن ميزانياتهم لم تكن أبداً بهذا الحجم الكبير. إنهم يعتقدون أيضاً أن تصريحاتهم سيتم الاستماع إليها إلى الأبد (…) ربما يكون بإمكانهم فرض السيطرة، لكن إذا توقف الناس عن تصديقهم، ستنفتح أبواب الجحيم على مصراعيها”. الهدوء والرصانة يمكن أن يصبحا رصيداً نادراً بشكل كبير.