IMLebanon

أوروبا وعقد ضائع من النموّ

Joumhouriya-Leb
بروفسور غريتا صعب
قد تكون الدراما اليونانية وعلى مدى السنوات الأربع الماضية قد أعطت دروساً سيستفيد منها العالم أجمع، ولا سيما الدول التي تعاني مشكلات اقتصادية كبيرة وفجواتٍ في الميزانية وانخفاضاً في الإيرادات الضريبية، ما يجعل من الصعب خفض الإنفاق والمساهمة في زيادة التراجع والإنكماش.
على ما يبدو أنّ التقشف الذي بدا ولفترة طويلة على أنه العلاج الوحيد للمشكلة في دول القارة التي تعاني اقتصاداتها مشكلات، بدأ يفقد من وهجه مع زيادة الإمتيازات التي أصبح يقدمها صناع القرار في الدول من حيث إعادة جدولة الديون وخفض العجز.

كذلك وعلى ما يبدو أنّ المشكلة اليونانية ومعها أوروبا ككل بدأت ترخي بظلالها على الأكاديميين ولا سيما الذين يدعون الى التقشف كونه العلاج الأمثل لهكذا أوضاع، وعلى سبيل المثال لا الحصر «كارمن رينهارت» و»روغوف»، واللذين جاءت تعليقاتهما حول ما اذا ما كانت تدابير التقشف الصارمة مفيدة او ضارة على الإقتصاد، مثيرة للجدل، ما يؤكد على انّ مناقشتهما لهذا الأمر يجب أن تكون أكثر دقة ما يعطي صناع السياسات الإقتصادية مزيداً من الأدوات لحل مشكلاتهم المعلّقة.

و قد يكون قول هؤلاء الإقتصاديين جميعاً إنّ «الدين فوق مستوى معين يحول دون النموّ الإقتصادي قد ألهم الكثيرين من صناع القرار في أوروبا ولا سيما OLLI REHN المفوّض الأوروبي للشؤون الإقتصادية والنقدية، والتي ذكرها في المناقشات الرئيسة التي جرت حول منطقة اليورو وكيفية تخفيض الميزانية،

وإن كان لهذا التوجه في التفكير الإقتصادي الكثير من المؤيّدين المقتنعين بأنّ التقشف هو انسب الحلول، فإنّ له في المقابل مناهضين ولا سيما في جامعة ماساتشوستس والذين أشاروا الى مغالطات كبيرة في هذه الفلسفة الاقتصادية (روغوف ورينهارت اللذان اعترفا في وقتٍ لاحق بهذه المغالطات مع دحضهما لهكذا ادعاءات، بالقول إنّ الخطأ نابع من «انتقائية»، مشيرين الى انّ «لا تغييرَ في جوهر الموضوع».

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: «هل يمكن لأوروبا أن تكمل بأجندة عمل تقشفية خصوصاً انّ خبرات اليونان والبرتغال غير مشجعة ونحن نرى حلقة مفرغة من التقشف المفرط وانخفاض النموّ وارتفاع معدلات البطالة.

في حين نرى في بعض البلدان أنّ نسبة البطالة بين الشباب قد بلغت أرقاماً قياسية (٥٠٪) مع انخفاض في الإيرادات الضريبية، ما دفع وكالات التصنيف الى خفض درجات هذه الدول الإئتمانية، وهكذا نعود معها الى الحلقة المفرغة نفسها».

وحسب steinbrueck وهو وزير المالية الألماني السابق فإنّ سياسة التقشف مفيدة، ولكنّ الحلّ هو بكمية الجرعات التي تعطى منها والتي يجب أن تتماشى مع حوافز اقتصادية وتدابير لمكافحة بطالة الشباب، وقوانين أكثر صرامة للمصارف، لأنه وإن تكن أزمة أوروبا في المطلق أزمة ديون إلّا أنها وفي بعض دولها مثل ايرلندا الشمالية وقبر ص وإسبانيا أزمة مصرفية بحتة.

هذا مع العلم أننا نرى أنّ جدول اعمال ٢٠١٣ ليس نفسه كالسنين الماضية، فهنالك نوع من الارتخاء المالي وتمديد في أجل القروض (السماح لإيرلندا والبرتغال بسبع سنوات لتسديد قروضهما)، كذلك وافقوا على طلب إسبانيا مزيداً من الوقت من اجل خفض عجز ميزانيتها لكي تتماشى مع القواعد الأوروبية.

وتجربة أوروبا مع التقشف قد تكون جديرة بالاهتمام ولا سيما أنّ برامج التخفيضات في الميزانية وارتفاع معدلات الضرائب وإيقاف تشغيل الإصلاحات الهيكلية تُعتبر مساراً خطيراً. وحسب بول كروغمان اكينيزي بامتياز قد يكون السبب الرئيس وراء كل هذه الأمور هو عدم وجود حوافز، ويعتبر كروغمان أنّ انخفاض الإنتاج في أوروبا هو نتيجة مباشرة لخفض الإنفاق الحكومي، أنفاق 50 ٪ من الناتج المحلي هي غير كافية للحفاظ على الاقتصاد، لذلك وجب عليهم تكثيف الحوافز الاقتصادية من اجل إنعاش الاقتصاد، وهذا ينطبق أيضاً على الولايات المتحدة الأميركية لذلك قد تكون ازمة أوروبا في حال انتظار،

والحلول قد لا تكون قريبة ولا سيما انّ بعض هذه الدول تفتقر الى الأموال اللازمة، لذلك فاليونان وإسبانيا وإيطاليا لا يمكنها الاستعارة أكثر، ورأي كروغمان في وضع التقشف يتوافق ورأي جوزيف ستيغليتز الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، والذي حسبه فإنّ «التقشف يدفع بالقارة الأوروبية نحو الانتحار»، ويعتبر انه على رغم أن «القادة الأوروبيين أدركوا أنّ التقشف لا ينفع في هذه الحالات وإنما هناك حاجة ماسة الى النموّ»، ويضيف ستيغليتز أنّ «الإجراءات المتبعة من قبلهم غير كافية»، مشيراً الى انّ «خطة التقشف مع القيود المفروضة على اليورو سلاحٌ فتاك للاقتصاد الأوروبي إذ إنها تدفع الى المزيد من البطالة ما يعني تدمير رأس المال البشري».

لذلك وبالمطلق قد تكون أزمة أوروبا الإقتصادية تتطلب اكثر من سياسة تقشف أظهرت عدم فعاليتها، إنما وعلى العكس قد تكون في بعض الأحيان وفي دول عدة زادت من مشكلاتها، وإسبانيا خير دليل على ذلك، وقد يكون الخيار الأنسب التخلي عن هذا التقشف، ومحاولة إيجاد حلول بديلة قد تكون مالية بشكل رئيسي، وقد تكون بالتحديد حول كيفية إنفاق هذه الأموال بطريقة بنّاءة.

وهكذا نرى أنّ دولاً أوروبية عدة قد شهدت زيادة في مديونية الدولة، وانه وتحت ضغط الـ «troika» اي المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، تدهورت أوضاع هذه الدول بدلاً من تحسين مصيرها، وساهمت في زيادة مديونيتها، ورفعت من معاناتها الإجتماعية، وزادت من نسبة بطالة شبابها، وأكثر ما أظهرته هو اضطرابات اجتماعية. وعلى ما يبدو إنّ التطلعات للعام ٢٠٢٥ قد تكون زيادةً في معدل الفقر وعدم تكافؤٍ في الفرص وزيادة شبح الإنقسام داخل المجموعة الأوروبية.

والمشهد الذي يتراءى لنا اليوم يُختصر بالتالي: ميركل مصرّة على سياستها وغير مستعدة لدعم الدول من دون مقابل، إنكلترا منهمكة بأمورها الداخلية غير آبهة بمستقبل العملة الموحدة، وفرنسا ضعيفة، وبروكسل متفاوتة الرأي والتطلعات وغير قادرة على احتواء كل هذه المشكلات. أما الحلول والدروس المستفادة فإنها كثيرة خصوصاً أنّ هذه الأزمة أدت الى اختلال توازن القوى وتعطل النظم المالية، وجاءت التكاليف على الضعيف الذي تحمّل العبء الأكبر، واستجابات الحكومات لسياسة التقشف لم تسهم إطلاقاً في النموّ بل زادت بالفعل من عدم المساواة ومن الفقر.

وقد تكون النظم الضريبية أداة فعالة في اعادة توزيع الثروات وينبغي على الحكومات إحداث تغييرات جذرية في السياسة العامة حول الضرائب المنصفة وفي تنظيم القطاع المالي وعلى سبيل المثال لا الحصر: ضريبة الثروة، ومعالجة التهرّب من دفع الضرائب، والشفافية فيما يتعلق بالمعلومات المالية، ونهج متماسك ضدّ الملاذات الضريبية، وتطبيق عقوبات على الشركات الأوروبية والتي لا تتوافق مع معايير الإتحاد الاوروبي.

هذا من ضمن الإصلاحات، أما من ضمن السياسة المالية فوجب على أوروبا في وضعها الحالي اتباع سياسة تيسير كمّي كالتي حصلت في الولايات المتحدة الأميركية التي ساعدت الى حدّ ما في تجنيب اميركا نتائج طويلة الأمد للأزمة المالية العالمية. لذلك وجب على أوروبا تنظيم قطاعَيها المالي والمصرفي كونها لا يمكن أن تتحمل هذا الوضع الراهن إذ إنّ التكلفة الحقيقية قد تكون خسارة عقد كامل من النموّ.