IMLebanon

حين تبكي السياحة: «عيون السمك» التي لا يرف جفن من أجلها

Akhbar

ساندي الحايك

تقع الضنية، في مخيّلة الكثيرين، بين الجبال التي تدّربت فيها مجموعات إسلامية متطرفة، وللمصادفة تقوم فيها دارة أحمد فتفت! هكذا يعرفونها؛ وقليلون يعرفون أن في ذلك الجرد الشمالي البعيد قطعة من «جنّة» مهملة ومنسيّة. إنها تلك البحيرة الكبيرة الهادئة التي تظهر في فيديو كليب لنانسي عجرم مثلاً، فتخالها من ريف أوروبي. حتى إن السينما المصرية الحديثة قصدتها، فصوّر فيها تامر حسني مشاهد من فيلمه الشهير «نور عيني». اسمها «عيون السمك»، يلتقي فيها نبعا ماء فيرسمان شكل عيني سمكة، ومن هنا جاءت التسمية.

«كنا ننتظر يوم تنظيف البحيرة كل سنة، كيوم العيد»، يقول، سعادة، أحد شباب المنطقة. كان حدثاً سعيداً بالنسبة إلى الأطفال ويوم الغلّة للكبار. يتجمّع الشباب على ضفاف البحيرة بانتظار أن يُفتح السد الحجري الكبير، لتفريغ المياه وريّ الأراضي المجاورة. ومع انخفاض منسوب المياه فيها تبدأ الرؤوس الصغيرة المتحركة بالظهور شيئا فشيئاً. تتكشّف الأسماك النهرية، يركض الشباب المتجمّعون لالتقاطها، صيدٌ ثمين يكون متاحاً مرة واحدة كل عام. وبعد الانتهاء من صيد الأسماك ينتظر الرجال المفتولة عضلاتهم غلّة البحيرة الثانية. هو يوم المفاجآت والهدايا والصبية مسرورون حتى لمجرّد التفرّج على ما يحدث. ينزل الرجال والشباب الى قعر البحيرة حاملين المعاول يرفعون الحجارة من تحت الرمال. يُسرعون في تلك المهمة قبل أن «تطبّ» دورية لقوى الأمن فتردعهم وتتهمهم بالسرقة. «هي من أجود أنواع الحجارة وقد استخدمها معظم الأهالي في بناء منازلهم»، يقول سعادة. لم تنظّف البحيرة الكريمة منذ عام 1979. وهي اليوم، برمالها الطينية وحشائشها الكثيفة الملتفة، تمثل خطراً كبيراً على كل مَن يرغب في النزول تحت مياهها. وسجّلت حالات غرق متعددة فيها أخيراً.

كنا ننتظر يوم
تنظيف البحيرة كل
سنة، كيوم العيد
لم يتخيّل الفرنسيون والبريطانيون الذين اكتشفوا بالصدفة جمال موقعها، أيام الانتداب، أن يلحق بها الإهمال الى هذه الدرجة. هم على الأرجح كانوا سيحوّلونها مقصداً سياحياً طبيعياً من الدرجة الأولى، ويبدو في هذا «الافتراض» جموحاً إلى مدح الاستعمار، لكنه يبقى افتراضاً صائباً. حتى الرئيس كميل شمعون الذي افتتح السدّ عام 1956 كان، حينها، يطبّق مشروعاً اقتصادياً فرنسياً ــ بريطانيا ــ ألمانياً قديماً نصّ على إنشاء معامل لتوليد الطاقة الكهربائية من المياه، وتحويل «عيون السمك» إلى منطقة سياحية، لكن، ما نفّذ من المشروع حتى اليوم لا يتجاوز الـ3%، والرقم «دقيق». هكذا، وضعت «عيون السمك» على الخريطة السياحية اللبنانية عام 1990 من دون أن تصنّف، فلم يعرف بها أحد ولم يُنصح بها السيّاح. ثم هجمت الفوضى البشرية لتنشر النفايات في بعض الأماكن المستباحة. وما زاد الطين بلّة، تناكف، على الطريقة اللبنانية، بين بلدتي عزقي التابعة لقضاء سير الضنية، وبطرماز التابعة لقضاء عكار. هكذاـ تجمّدت المشاريع القليلة أصلاً بسبب خلافات بلدية ضيّقة لم تنتج سوى خسارة للمنطقة. حتى إن «السكان الأصليين» هناك، أي الآتين من سفينة القيطع العكارية الذين سكنوا في «عيون السمك» طالبوا ببلدية مستقلّة فرفض طلبهم ووقع الخلاف الكبير بين الأطراف الثلاثة. الوضع المأزوم عقارياً في عيون السمك يتفاقم في ظل إصرار رئيسي البلديتين المذكورتين على رفضهما قرار فصل عيون السمك عن أراضيهما. الوضع المأزوم يعني شيئاً واحداً: نهاية البحيرة. وبلا شك، سيكون ذلك مؤلماً وقاسياً على صيّادي المواسم. يحلم هؤلاء بالإنماء، لكن، يبدو أن الإنماء لن يعرف طريقه الى تلك الجرود حتى لو أن كنوزاً ثمينة دفنت فوق!
على الرغم من توكيل أمر الاعتناء بالمكان لبلديتي عزقي وبطرماز، إلا أن أحداً لم ينجح حتى اليوم بتأهيل الطريق الرئيسي المؤدّي إلى محلة «عيون السمك». اُهّل الطريق مرة واحدة عام 1992، لكنه لا يزال يفتقر إلى مقومات عدة لكي يكتسب صفة «طريق رئيسي». وبدلاً من أن يستمتع الهاربون من ضوضاء المدن بمشوارٍ إلى البحيرة ومحيطها الأخضر، تبدأ نزهتهم بتوتر يرافقهم على طول الطريق الضيقة المتعرّجة التي يحدّها وادٍ عميق. جدران الدعم غائبة، وفي فصل الشتاء، يكون الخوف مضاعفاً، وتكثر الحوادث بسبب انزلاق السيارات في منحنيات الطريق الوعرة، وتفتت عدد من الصخور الشاهقة.
المنطقة الطبيعية التي فشلت الدولة في استغلالها سياحياً (حتى في السياحة الداخلية) خسرها البلد أيضاً على صعيد الطاقة. ففي «عيون السمك» معملان لتوليد الكهرباء. أنشئا أيضاً ضمن المخطط الفرنسي ـ البريطاني ـ الالماني إيّاه، يتصل أحدهما بالآخر عبر نفقيّن حُفرا بأيادي عمال وفلاحي المنطقة داخل الجبال، لكن العمل شبه متوقّف فيهما اليوم، برغم وجود موظفين ثابتين، وانتاج الطاقة شبه معدوم.