IMLebanon

العقوبات الروسية وارتداداتها العكسية

Joumhouriya-Leb

بروفسور غريتا صعب

قد يكون الهدف من هذه العقوبات إلحاق ضرر باقتصاد روسيا المريض أكثر منه رَدع روسيا وتركيعها. لكن، وعلى ما يبدو، أتى هذا نتيجة لإسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية الشهر الماضي، وتفاعلاً مع دعم بوتين للانفصاليّين في شرق أوكرانيا.

لذلك، اتخذ القرار كخيار لمعاقبة نظامه، وبكلام آخر إذلاله على حدّ قول Luc Ferry الفيلسوف الفرنسي والوزير السابق للتعليم. ففي مقابلة له مع راديو UR قال ferry بالحرف: «أعتقد انّ العقوبات ضد روسيا سخيفة تماماً وببساطة لا معنى لها، اذ انّ الهدف منها هو إذلال روسيا…».

وعلاوة على ذلك يعتقد الأكاديميون، وعلى الأقل بعضهم، انّ فعالية هذه العقوبات سوف تكون «قريبة من الصفر»، وهي فقط لإزعاج الروس لا أكثر، امّا نتائجها فمن المنتظر ان تلحق ضرراً، ليس فقط على الإقتصاد الروسي، انما ضربة للإقتصاد الأوروبي.

وهذا بالفعل ما جاء على لسان الرئيس بوتين الذي أعلن مجدداً انّ هذه العقوبات سوف تأتي بنتائج عكسية وتشكل ضرراً كبيراً للعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، إضافة الى انها قد تهدد الاستقرار العالمي.

وروسيا، وللعِلم، ليست ايّ دولة يمكن لأوروبا وأميركا معاقبتها، فهي دولة عظمى وعندها من القدرات ما يجعلها تتفاعل بشكل مختلف تماماً عن كوريا الشمالية وكوبا وايران وغيرها من الدول التي عوقِبت لأسباب قد تكون محقّة وقد تكون مجحفة بحقها.

لكن يبقى القول انّ هذه العقوبات، وعلى رغم ضررها المباشر على الاقتصاد، سوف تنعكس ضرراً على دول اوروبا وفي مختلف القطاعات وعلى الدولار كعملة احتياط وتداول عالمية. وقد تكون التكاليف كبيرة، لكن على ما يبدو انها لن تكون كافية لتغيير موقف بوتين أو تليينه من Crimea وأوكرانيا والطائرة الماليزية.

وعلى رغم خفض التوقعات حول النمو الاقتصادي في روسيا هذا العام الى 0,2% من 1,3% نظراً لهروب رأس المال بسبب تورّط البلاد في النزاع الاوكراني، وفي حين انّ العقوبات السابقة تركز على الشركات الخاصة والأفراد، فإنّ المجموعة الجديدة من هذه العقوبات تضرب قطاعات أساسية في الاقتصاد الروسي بما فيها النفط والغاز والتكنولوجيا والخدمات المصرفية والمالية ومبيعات الأسلحة، وتضرب كذلك مقرّبين من بوتين. ويقول باراك اوباما مؤخراً: «هذه العقوبات الاقتصادية الجديدة هدفها زيادة الضغط على روسيا وعلى الشركات الروسية التي تدعم الاجراءات غير المشروعة في أوكرانيا».

والسؤال الذي يطرح من قبل السياسيين والأكاديميين: هل ضرب الاقتصاد الروسي على هذا النحو كاف لتغيير المسار في اوكرانيا وقد يكون وحسب Nile Gardiner، وهو محلل في مؤسسة التراث (Heritage)، انّ الغرب بحاجة الى اتخاذ نهج أوسع نطاقاً يهدف الى عزل روسيا دولياً لا سيما تعزيز الحلف الأطلسي الـ NATO.

وتأثير هذه العقوبات على الاقتصاد الروسي لن يكون من دون ردود عكسية على اوروبا، وللعِلم انّ 500 مليار دولار هو حجم التبادل التجاري والإستثمار بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. وللمَثل فقط فإنّ شركة النفط البريطانية العملاقة British petroleum تراجعت أسهمها بنسبة 2,5% وحذّرت الشركة انها سوف تعاني اكثر جرّاء قسوة هذه العقوبات المفروضة على روسيا، لا سيما انّ الـ BP تمتلك حصة كبيرة في شركة Rosneft، أكبر شركات النفط الروسية، والتي لم تعد تستطيع الوصول الى تمويل طويل الأجل من مصادر اميركية.

وهذا ينسحب أيضاً على أسهم شركة رينو الفرنسية لتصنيع السيارات التي تراجعت بنسبة 4,5% حيث حذّرت الشركة من هكذا عقوبات وكون روسيا ثالث أكبر سوق لرينو على أساس المبيعات، إضافة الى ذلك تأثير هذه العقوبات على قطاع العمل والذي، وحسب احصاءات ألمانية، انّ اكثر من 25000 وظيفة في المانيا هي في خطر.

ويلوح في الأفق المزيد من الضرّر لا سيما في الصادرات الألمانية، علماً أنّ جميع القطاعات في اوروبا مهددة بالخطر من جرّاء هذه العقوبات ونتائجها، وقد لا تستطيع اوروبا تحمّلها كونها لا تزال تترنّح تحت عبء الديون والمصارف المتعثرة منها.

كما انّ شركات الطيران، مثل Air France و Lufthansa، سوف تعاني من القيود المفروضة على الرحلات الجوية عبر سيبيريا ردّاً على عقوبات الاتحاد الأوروبي. وإنّ هذه العقوبات سوف يكون لها عواقب وخيمة على الكثير من شركات النقل التي تستخدم هذا المجال الجوّي ولها مراكز الوصل (Hub) في فرانكفورت وباريس ولندن، اذ انها سوف تضطر لاستخدام طرق أطول، ما يعني المزيد من الوقود وزيادة في التوقّف ورفع في الأسعار. امّا الضرر الأكبر، والذي قد يلحق بروسيا، هو في القطاع المالي الذي هو عصب الحياة في ايّ مجتمع حديث.

وهذه العقوبات جاءت مستهدفة VTB والبنك الزراعي الروسي وموسكو بنك، وتحظّر أيضاً من تقديم التمويل والتعامل مع الديون الجديدة لأكثر من 90 يوماً، وحرمان روسيا من الوصول الى التمويل المصرفي من التكنولوجيا المتقدمة.

ما يعني إمكانية تحوّل روسيا عن استخدام الدولار كعملة تبادل مع بعض الدول، ما يفسّر انّ هذه العقوبات قد تأتي بنتيجة عكسية على الولايات المتحدة الأميركية كونها تهدّد بتسريع التحوّل عن الدولار، علماً انّ المصارف الأميركية الكبيرة وشركات الأوراق المالية تكافح بكلّ ما للكلمة من معنى من اجل الامتثال مع العقوبات الاميركية الجديدة والتي تمسّ أجزاء مهمة من الطاقة الروسية والصناعة المالية فيها.

وانّ بعضهم في وول ستريت يشتكون من توجيهات هذه العقوبات، كونها وحسب أقوالهم، غامضة وتترك مجالاً كبيراً للخطأ لأنها ليست واضحة بما فيه الكفاية وتترك فسحة لا بأس بها للتخمين، ما يعني انها قد تكون عرضة بدورها لعقوبات المنظمات الاميركية.

وانّ عدم الوضوح في العقوبات هو ما يسبب في الواقع عبئاً في الامتثال. فعلى سبيل المثال القيود التي وضعت على مصارف التنمية Gazpronbank و vneshekonombank، إذ انها غير واضحة من حيث معنى رسائل الاعتماد (letters of credit)، وكذلك الإئتمان من حيث العمليات التجارية التي تستغرق اكثر من 90 يوماً، بينما تستغرق رسائل الاعتماد فيها اقلّ من هذه المدة.

وفي بعض المصارف العالمية يبدو انّ هنالك تحدياً بين نشاط الإقراض القصير الأجل، والذي يبدو مقبولاً في قائمة العقوبات وغير واضح على المدى الطويل لا سيما اين تُحدّد الـOFAC (office of foreign assets control) الفرق بين المدى الطويل والمدى القصير، لا سيما انّ المكتب المذكور لا يوفّر مزيداً من التوجيه.

إنّ الذي ذكرناه هو جزء بسيط من تعقيدات هذه العقوبات ومفاعيلها على روسيا، والتي قد تأتي بنتائج أخطر بكثير، لا سيما على اوروبا واقتصادها وعلى مستوى صادراتها لروسيا، لا سيما المانيا بالتحديد. لكن، وعلى ما يبدو انّ بوتين على يقين انّ عمليات كهذه سوف يكون لها مفاعيل عكسية تجعل من دوَل اوروبا ومعها الولايات المتحدة الأميركية تعيد النظر في خطواتها هذه، وكون روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي بل سوف تتجه الى أسواق اخرى، ومنها ايران والصين واميركا الجنوبية، في محاولة منها للالتفاف على هذه العقوبات.