IMLebanon

ماذا يمنع دول الشرق الأوسط من التمثل بتجربة «الميكونغ» الاقتصادية؟

MiddleEast
مي الصايغ

مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، مقولة تنطبق على دول أسفل حوض نهر الميكونغ في جنوب شرقي آسيا التي دشّنت مسيرة تعاونها بخطوات تدريجية، بدأت على مستوى الخبراء وتطوّرت نحو إنشاء مفوضية للنهر MRC تعمل وفق إطار «تلبية الحاجات والحفاظ على التوازن». فما سر نجاح هذه التجربة وما يمنع دول الشرق الأوسط أن تحذو حذوها؟
تشكّل «مفوضية نهر الميكونغ» التي أسستها كلّ من لاوس وتايلاند وكمبوديا وفيتنام في عام 1995 منصة لحوار مفتوح في شأن تبادل المعلومات والتعاون، إذ تتولى المفوضية التنسيق والإشراف على إدارة واستخدام موارد النهر الذي ينبع من هضبة التيبت ويجري عبر الصين وميانمار ولاوس وتايلاند وكمبوديا، ثم يسير في فيتنام مكوّناً دلتا نهر الميكونغ ليصبّ في النهاية في بحر الصين الجنوبي. في عام 1996، أصبحت كلّ من الصين وميانمار شريكتين في الحوار من دون أن تكونا من أعضاء المفوضية.

إطار تعاوني إنطلق عام 1957 مع إنشاء لجنة نهر ميكونغ، وتطور عام 2001 ليشمل تشكيل سكريتاريا، وسبقته مشاريع تقنية صغيرة في مجال المحطات الهيدرولوجية المشتركة والري والثروة السمكية، لتعود وتنتقل دول أسفل الحوض المتشاطئة من التعاون الإنساني إلى الإقتصادي.

منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، تعمل مفوضية الميكونغ تحت شعار «تلبية الحاجات والحفاظ على التوازن»، وقد طوّرت الدول الأعضاء أنظمة جمع معلومات شاملة ونماذج لدراسة التغير المناخي والفيضانات وفرص الملاحة في النهر الذي يعدّ سابع أطول أنهار قارة آسيا.

تجربة نجاح وجدت فيها المنظمة الهندية للأبحاث «Strategic Foresight Group» التي تضع منذ عام 2010 نصب عينيها هدف تحويل المياه من مصدر للنزاع الى أداة للسلام، نموذجاً يمكن أن تستلهم دول الشرق الأوسط عِبراً منها.

فالمنظمة الهندية سبق وأطلقت مبادرة «السلام الأزرق» لتشجيع التعاون بين لبنان وسوريا والعراق والأردن وتركيا على إدارة مواردهم المائية المشتركة، على أمل الوصول الى مجلس تعاون إقليمي للمياه في الشرق الأوسط.

وفي هذا الإطار، أتت الرحلة الميدانية لمجموعة السلام الأزرق إلى نهر الميكونغ ما بين 17 و 20 تشرين الثاني الماضي، للإطلاع على إدارة الموارد المائية العابرة للحدود في القسم السفلي لحوض الميكونغ في كلّ من كمبوديا ولاوس، بدعوة من المنظمة الهندية بالتعاون مع مفوضية نهر الميكونغ، وبرعاية الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي (Sida).

رحلة شكّلت فرصة جديدة لعدد من النواب والخبراء التقنيين وأعضاء الشبكة الإعلامية للسلام الأزرق من تركيا ولبنان والعراق وسوريا والأردن للاستماع إلى تجربة التعاون في جنوب شرقي آسيا، بعد زيارة مماثلة إلى نهر الراين في أيلول 2013.

في العاصمة الكمبودية بنوم بن، اطّلع الوفد في مقرّ سكريتريا مفوضية نهر الميكونغ (MRC) على كيفية جمع المعلومات وتبادلها في شأن إدارة الفيضانات وتخفيفها وأجهزة الإنذار في الحوض السفلي للنهر حيث يعيش 60 مليوناً، وتخلل الجلسة عرض لأهمية دور مصائد الأسماك التي تساهم في الناتج المحلي الإجمالي الكمبودي بنسبة 12 في المئة وفي اقتصاد لاوس 7 في المئة.

استطاعت دول الميكونغ إقامة شبكة ملاحة ناجحة من دون ان تشكّل الحدود عائقاً أمام هذا التعاون، وخلق منصة للتعاون ليس فقط في الإقتصاد والنقل والتجارة، بل امتدت لتشمل الحفاظ على بيئة مستدامة وتحقيق التوازن بين التنمية الوطنية وروح التعاون العابر للحدود.

ويعرض نائب رئيس اللجنة الوطنية الكمبودية للميكونغ وات بوتكوسال لدور اللجنة في مساعدة الحكومة الكمبودية في تقديم النصح في القضايا المتعلقة بالسياسات والاستراتيجيات وإدارة نهر الميكونغ وتطويره داخل البلاد.

وشملت الجولة أيضاً زيارة إلى مرفأ بنوم بن الدولي الذي أدّى دوراً مهماً في تحقيق التعاون بين كمبوديا وفيتنام في الملاحة والتنمية، وتضمّنت شرحاً للمساعدة التقنية والمالية التي تقدّمها مفوضية الميكونغ عند الحاجة.

المحطة الثانية كانت في فيينتيان عاصمة لاوس، حيث تمّ التطرّق لتأثير بناء سدود كبرى على نهر الميكونغ وكيفية مقاربة MRC لهذه المسألة.
فالمفوضية لم تواجه أيّ نزاع حتى الساعة بين الدول المتشاطئة، لكنّ رغبة لاوس في بناء سد زايابوري الكهرومائي في عام 2010، والذي أوقف العمل به حالياً، من شأنّها أن تثير التوتر مستقبلاً.

وقد سبق وتسبّب وضع لاوس لحجر أساس لسد زايابوري على نهر ميكونغ قلقاً أقرب إلى الغضب في كل من كمبوديا وفيتنام. كمبوديا أنذرت لاوس بأنّها ستلجأ الى المحكمة الدولية إذا استمرت لاوس في البناء. اليوم المسألة باتت في عهدة مفوضية الميكونغ حيث تخضع لنقاش معمّق بين الدول الأعضاء.

العراق

نموذج «الميكونغ» يجسّد أفضل أشكال الإدارة المشتركة لمصادر المياه كما ترى النائب في البرلمان العراقي المهندسة شروق العبايجي التي قالت لـ«الجمهورية»: «لنهر الميكونغ خصوصية بفعل وجود وفرة كبيرة في المياه نسبتها 800 بليون متر مكعب، ما يغطي حاجات الدول المتشاطئة، والصيغة التي طوّرتها مفوضية الميكونغ لمواجهة التحديات تقدّم نموذجاً رائعاً لإمكانية تحويل التشارك في مصادر المياه من مصدر للنزاعات الى مصدر لترسيخ العلاقات والتعاون بما يخدم التطور والتنمية لتلبية احتياجاتهم، وتحقيق التكامل على صعيد البيئة وتطوير حوض النهر».

غير أنّ روحية التعاون هذه ما كانت لتترجم على الأرض لولا «التأثير الخارجي» للدول المانحة الذي يبدو جلياً، وهو ما ساهم في نظر العبايجي في تطوير آليات التعاون، فضلاً عن الاهتمام السياسي العالي المستوى من خلال الاجتماعات التي تعقد كل أربع سنوات على مستوى رؤساء الوزراء لدول أسفل حوض ميكونغ.

أمّا في الشرق الأوسط، فترى العبايجي أننا في حاجة للاستفادة من تجربة الميكونغ، وعلى رغم اختلاف العوامل الطبيعية ولا سيما لناحية الشح في مصادر المياه، يمكننا التعلّم من آلية التعاون التي تستظلّ مبادئ الإدارة المتكاملة للمياه.

الأردن

الأمين العام السابق في وزارة المياه والري الأردنية ميسون الزعبي وجدت أنّ «الخوف من الكوارث يدفع الناس الى التعاون، ففي الميكونغ جمعتهم الفيضانات وفي الراين أجبر التلوّث الناس على الالتزام».

وفي التجربتين لم ييأسوا، الأمور تتطلب وقتاً، لا شكّ أنّ «مأسسة التعاون موجودة لدى دول الميكونغ، ومع الوقت من الضرروي ان يواكب التقدم الاقتصادي تنظيماً لمنع استنزاف الموارد إذا ساروا بالوتيرة نفسها، وحتى لا يواجهوا المشاكل التي نعانيها في الشرق الأوسط».

ومن خلال ما لمسناه، ترى الزعبي أنّ الالتزام ظاهر بين الدول الأقلّ تحضّراً، وعلى سبيل المثال أميركا وكندا غير متفقتين على المنطقة الإقتصادية الخالصة لشلالات نياغارا، علماً أنّ الدولتين قويتان، ولديهما وفرة في المياه لكن يبقى لتلك المصادر تأثيرات على اقتصاد البلدين.

وتناشد الزعبي الدول العربية التي تملك مصادر مياه ثمينة ألّا تضيّعها. وتقول: «هناك سوء فهم لمفهوم تقاسم المنافع، فمن يريد أن يكون طرفاً في أيّ مشروع عليه أن يتشارك المنافع والكلفة».

وما يثبت أنّه طالما «توفرت الإرادة السياسية يمكن التقدم، إذ إنّ عدم الاستقرار السياسي وخروج دول الميكونغ من حروب واستمرار مواجهتها للأزمات لم يحل دون تعاونها، فهذه الدول تسعى إلى التطور ومناقشة قضاياها بطريقة حضارية وقررت السير بطريق التعاون وليس الحرب».

لبنان

في المقابل، يشيد رئيس مجلس إدارة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني سليم كتفاكو بتجربة التعاون في الميكونغ، لكنّه يبدي خشيته من ان تدخل دول الحوض مستقبلاً في نزاعات حول تفسير إتفاقية الامم المتحدة لعام 1997 حول المياه.

وفق اتفاقية 1995 تقوم دول الميكونغ بالإبلاغ على طريقة علم وخبر، إذ إنها كانت تنوي إقامة سدود، في حين أنّ اتفاقية الأمم المتحدة تنصّ على ضرورة أخذ موافقة كل الدول المعنية لإنشاء سدود.

ويقول كتفاكو لـ«الجمهورية»: «لغاية الآن ليس هناك نزاع، ولكن في حال اختلفوا على كمية المياه المستخدمة للزراعة أو الملاحة فمَن يقوم بالتحكيم او من يحلّ هذه الخلافات؟ هل سيتدخل الوزير أو اللجنة الاقليمية؟ لنفترض أنّ معملاً تسبب بتلوّث للنهر، ما هي الإجراءات الإستباقية وما الذي يمنع حدوث هذه المشاكل؟».

ويتفق كتفاكو مع العبايجي على أنّ سر نجاح تجربة ميكونغ وجود قرار دولي يدعم التعاون. ويستبعد إمكان تطبيق تجربة دول نهر الميكونغ على دول حوض الأردن (لبنان واسرائيل وسوريا والاردن) في ظلّ ما تشهده سوريا اليوم ولأننا نعيش حالة حرب مع إسرائيل، ولكن في المستقبل قد تتطور الأمور.

تركيا

الجانب التركي توقف عند الاختلاف في الثقافات بين دول الميكونغ والشرق الاوسط. في نظر الخبير في معهد المياه التركي أحمد ساتشي، في الميكونغ لديهم «وفرة في مواردهم المائية وهم لا يتحدثون عن الحصص ومشاكلنا مختلفة».

ويقول لـ«الجمهورية»: «هناك صعوبة في تطبيق هذا النموذج، لكنّ هناك دروساً مفيدة يمكن تعلّمها ومن بينها طريقة تعاونهم وحوارهم مع بعضهم البعض والتنظيم الذي ساروا عليه، هذه أمور يمكن استلهامها».

إلاّ أنّهم حتى الآن لم يبنوا سدوداً أساسية، وهي مسألة لو تمّت في المستقبل قد تعقبها مشاكل، كما يتوقع ساتشي. وفي المحصّلة، يتّضح أنّ روحية اتفاق 1995 بتحويل الادارة الى تعاون نجحت على رغم الحروب التي شهدتها دول الميكونغ، ما يعني أنّ عدم الاستقرار السياسي ليس عذراً لغياب التعاون، والعجز في الموارد الاقتصادية أيضاً لم يشكّل عائقاً أمام تعاونها.

فالتعاون يمكن ان يكون تدريجاً ويبدأ بخطوات صغيرة من خلال لجنة خبراء تتطور الى مفوضية، وليس بالضرورة البدء بإنشاء أجهزة ضخمة،
فالسر يكمن في الحكمة السياسية السائدة وتبادل المعلومات بين دول الحوض بشفافية وثقة وبدعم جهات مانحة خارجية، وبرؤية مستقبلية الى أين يتجه الاقليم في السنوات المقبلة لضمان الإدارة المستدامة للموارد المائية المشتركة.

فهل تتحرّك دول الشرق الأوسط وتسلك طريق التعاون قبل أن تداهمها الكوارث ؟