IMLebanon

إشكالية الهوية تختبر معجزة سنغافورة الاقتصادية

SingaporeEconomyMoney
جيرمي جرانت

تيار الركاب الذين يشعرون بالضجر ينزل من القطار في محطة في بنجول، وهي منطقة على الساحل الشرقي لسنغافورة، في الوقت الذي كان فيه المهندس المتقاعد، مايكل نج، وزوجته يبحثان عن مطعم في منطقة معروفة بالمأكولات البحرية.

مثل أجزاء كثيرة من دولة المدينة الآسيوية، تحولت بنجول بسبب المعجزة الاقتصادية التي دفعت سنغافورة من منطقة منعزلة جنوب شرقب آسيا بعد الاستقلال عن بريطانيا في عام 1965، لتصبح واحدة من الاقتصادات الأكثر نجاحا في العالم.

أغلقت آخر مزرعة للخنازير في بنجول في عام 1990 حيث قدمت القرى الصغيرة في المنطقة (كامبونج) – كلمة بلغة الملايو تعني قرية – طريقا لمشاريع الإسكان الحكومي التي وفرت منازل لآلاف المواطنين السنغافوريين وللأعداد المتزايدة من المهاجرين القادمين من الصين، الذين يشكلون نسبة كبيرة من الأجانب البالغ عددهم 1.3 مليون نسمة في الدولة التي يبلغ مجموع سكانها 5.3 مليون نسمة – نفس عدد سكان النرويج تقريبا.

يقول نج (67 عاما) “إن الحياة أصبحت أكثر إجهادا في الآونة الأخيرة”. ويضيف “يتعين على أبنائي العمل لساعات طويلة جدا. يجب على الناس أن يعملوا بجد للحفاظ على أنماط حياتهم. تكاليف النقل زادت بالفعل في هذين العامين الماضيين، وارتفعت تكاليف الإسكان كثيرا”.

سنغافورة التي يعمل فيها أبناء نج اليوم هي مكان مختلف جذريا عن تلك التي كانت معروفة خلال سنوات ما بعد الاستعمار، عندما كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مجرد 550 دولارا. فبفضل الإنجاز المذهل لبناء الأمة تحت القيادة الحديدية للي كوان يو، أحد رجال الدولة الآسيويين الأكثر احتراما في القرن العشرين، تفتخر سنغافورة اليوم بأن الناتج المحلي الإجمالي للفرد يبلغ 55 ألف دولار، وفقا للبنك الدولي. وهذا يضعها قبل إيرلندا التي تبلغ حصة الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي 47 ألف دولار.

وبالنسبة للمدينة الدولة التي يبلغ حجم كتلتها اليابسة تقريبا نفس الحجم المتوسط لجزيرة كاريبية، كانت سنغافورة تتعامل مع أمور أكبر حجما منها.

فقد نما اقتصادها بمعدل 5-7 في المائة على مدى معظم العقد الماضي، ما ساعد على إنشاء مركز مالي لامع يسد الفجوة مع سويسرا باعتبارها أكبر مركز لإدارة الثروات في العالم. سنغافورة هي أكبر مركز في آسيا لتداول العملات الأجنبية والسلع على حد سواء.

وأغرت ضرائب الشركات المنخفضة – في المتوسط 17 في المائة – الاستثمارات الأجنبية، ما حولها إلى مركز أعمال، بلا منازع، بالنسبة للاقتصادات سريعة النمو في جنوب شرق آسيا. والسفن الراسية في قناة ضيقة تفصل سنغافورة عن إندونيسيا – مرئية من الطوابق العليا من مكاتب سيتي بانك وستاندرد تشارترد – هي دليل على دور سنغافورة باعتبارها أكبر ميناء لتزويد السفن بالوقود في العالم. والفساد لا وجود له هنا تقريبا. وبلغ من انخفاض معدلات الجريمة أنه من النادر رؤية الشرطة النظامية في الشوارع.

لكن في الوقت الذي تستعد فيه سنغافورة للاحتفال بمرور 50 عاما على الاستقلال في العام المقبل، هناك شعور سائد بعدم الارتياح. الأنموذج الذي بنى سنغافورة – القائم على جذب الاستثمار الأجنبي والزيادة المطردة في عدد السكان لتغذية التوسع الاقتصادي والسيطرة الأبوية – لن يضمن استمرار المعجزة الاقتصادية. وقال لي هسين لونج، رئيس الوزراء “نحن الآن في نقطة انعطاف لتغيير السرعة وتغيير الوتيرة”. وأضاف “اليوم (نحن) ناجحون ومزدهرون، (لكن) لا نخلو من مسائل لا بد لنا من التعامل معها”.

ومع انخفاض معدل المواليد، كان على سنغافورة الاعتماد على المهاجرين الأجانب، مثل مهاجري البر الرئيسي الصيني الذين يقودون الحافلات العامة، أو يعملون في مواقع البناء، وذلك للحفاظ على اقتصادها على المسار الصحيح. وهذا أجهد البنية التحتية للنقل وأثار شعورا بالاستياء بين بعض السنغافوريين العاديين.

واتسع التفاوت في الدخل، في وقت أصبحت فيه سنغافورة مركزا ماليا يتسم بضرائب صديقة. وتقدر ويلث إكس، وهي شركة أبحاث، أن 255 شخصا من بين كل مليون شخص في سنغافورة يملكون 30 مليون دولار أو أكثر من الأصول، بما في ذلك عقارات وشركات قابضة – أكثر من ثمانية أضعاف المتوسط. وأحد تأثيرات ذلك أن أصبحت سنغافورة نقطة جذب لشركات صناعة السيارات الراقية، بما في ذلك مازيراتي ولامبورجيني وماكلارين، التي افتتحت أول صالة عرض لها هناك في العام الماضي.

وفي الوقت نفسه، تقدر دراسة حديثة أجراها مركز ليان للإبداع الاجتماعي في جامعة سنغافورة للإدارة، أن ما نسبته 10-14 في المائة من السكان الدائمين يعيشون تحت خط الفقر الذي يعرف بأنه الدخل الشهري الذي يبلغ 1250 دولارا سنغافوريا (962 دولارا أمريكيا) أو أقل لأسرة تتكون من أربعة أشخاص. وهذه الإحصائيات تبرز معضلة وجودية ملحة: هل يمكن لهذا البلد الجزيرة الذي أنفق نصف القرن الماضي على إدارة التنمية الوطنية أن ينجح في علاج المعضلات المترتبة على كونه مدينة عالمية؟

بيوش جوبتا، الرئيس التنفيذي لـ DBS، أكبر مصرف في سنغافورة من حيث الأصول، يقول “سنغافورة، بطريقة ما، لا تزال تمر بأزمة هوية. هل تسعى حقا أن تعتنق كونها مدينة عالمية أم لا”. ويضيف “بالنسبة للندن ونيويورك، كان الجواب لا لبس فيه على مدى العقود العديدة الماضية. في حالة سنغافورة لا يزال القرار معلقا من حيث إن كونها مدينة عالمية يأتي مع إيجابيات وسلبيات. إذا اخترت عدم الرغبة في أن تكون مدينة عالمية، فإن ذلك يشكك في الأنموذج الاقتصادي والنمو الذي تتطلع إليه”.

وبصرف النظر عن ارتفاع تكاليف المعيشة واتساع الفجوة في الدخل، يشعر كثير من السنغافوريين بأنهم يفقدون الاتصال مع مفهوم الهوية الوطنية التي يغذيها حزب العمل الشعبي الحاكم.

يقول سودهير توماس فاداكيث، وهو كاتب محلي، “إن المزيج المؤلف من العولمة وانخفاض معدلات المواليد والهجرة العالية قلبت أساسا جوهر الهوية السنغافورية التي حاول أجدادنا بناؤها”.

وكانت الحكومة تعمل على تعزيز الهوية السنغافورية “الأساسية”. ويجادل الوزراء بأن النقاش المتزايد عزز الشعور بالهوية، ولم يعمل على تآكلها. ويقول هنج سوي كيت، وزير التعليم والسياسي المسؤول عن احتفالات الاستقلال “لقد أصبحت فكرة مجتمع متعدد الثقافات والأديان والأعراق هذه أعمق كثيرا. هذا الشعور بالهوية المشتركة لدينا والشعور بالمصير المشترك أقوى كثيرا”.

ويشير إلى أن ما يقارب ثلث طلاب المدارس والجامعات يقضون بعض الوقت في الخارج في برامج لتبادل الثقافات، كثيرون منهم بتمويل من الحكومة. ويقول هنج (52 عاما) “إن ذلك كان نادر الحدوث عندما كان طالبا”.

واعترف لي بفجوة الدخل. وقال رئيس الوزراء في العام الماضي “نحن لسنا جميعا رونالدو” – في إشارة إلى لاعب كرة القدم البرتغالي كرستيانو رونالدو – “لذلك يجب على الحكومة أن تتدخل أكثر للحفاظ على مجتمعنا كمجتمع عادل ومنصف”. وشمل ذلك تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، مع وضع نحو ثمانية مليارات دولار سنغافوري في برامج العوائد من أجل كبار السن.

وشرعت الحكومة أيضا في إعادة هيكلة اقتصادية تهدف إلى زيادة الإنتاجية وتقليل الاعتماد على الأجانب. ووفقا لبنك كريدي سويس، مستويات الإنتاجية في سنغافورة تبلغ نحو 70 في المائة من تلك الموجودة في الولايات المتحدة، ما يعني أنها على مسافة لا بأس بها وراء تايوان وأستراليا، لكنها تأتي قبل بريطانيا.

ومع ذلك، القرار لا يزال معلقا حول مدى نجاح هذه الاستراتيجية، كما قال تقرير لصندوق النقد الدولي الشهر الماضي. وحذر من “أن الخطة الرامية لإبطاء تدفق العمال الأجانب أكثر من قبل، وذلك في إطار إعادة الهيكلة الاقتصادية الجارية، يمكن أن تخفف النمو المحتمل وتخفض القدرة التنافسية”. وأضاف أن “التحسينات الإنتاجية قد تستغرق بعض الوقت لتتحقق”.

يوه كيت تشوان، العضو المنتدب لمجلس التنمية الاقتصادية، المسؤول عن جذب الاستثمارات، يقول “إن نقطة الانعطاف التي ذكرها رئيس الوزراء تعتبر بالمقدار نفسه حول ملاحقة الفرص الجديدة والمثيرة، فضلا عن إعادة هيكلة الاقتصاد”.

وتمكنت سنغافورة من تحويل سلسلة القيمة في مجالات مثل تكنولوجيا التخزين، حيث تدعي أنها تمثل 40 في المائة من إنتاج محركات الأقراص الصلبة. كما استثمرت في التعليم العالي لضمان وجود تدفق مستمر من الموظفين المهرة لشركات أجنبية مثل إيمرسون، وهي شركة هندسية أمريكية.

ويقول إد منصر، الرئيس التنفيذي للعمليات في “إيمرسون”، “إنهم مستمرون في إعادة اختراع أنفسهم وهذا هو السبب في أن نستمر في الاستثمار هنا، لأننا نرى الجامعات والكليات التقنية التي تخرج المواهب التي نحتاج إليها”.

وتواصل الشركات متعددة الجنسيات اختيار سنغافورة لإقامة مقارها الرئيسية الإقليمية. وهذا العام، نقلت آرتشر دانييلز ميدلاند، شركة الصناعات الزراعية التي يوجد مقرها في الولايات المتحدة، مركزها الإقليمي من الصين إلى سنغافورة، في حين حولت “جنرال موتورز” الجزء الأكبر من عملياتها الدولية غير الصينية من شنغهاي.

كل هذا يبرز الأهمية المتزايدة لسنغافورة باعتبارها مركزا لجنوب شرق آسيا، في حين إن حظوظ منافستها هونج كونج في الشمال ترتبط بشكل متزايد مع الصين.

لكن مع عدم وجود مناطق اقتصادية داخلية خاصة بها، ربما يتعين على سنغافورة الاعتماد بشكل أكبر على الخدمات المالية – حاليا نحو 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 15 في المائة بالنسبة لهونج كونج – لدفع جانب كبير من المرحلة التالية من النمو.

ووفقا لصندوق النقد الدولي، تفوقت الإنتاجية في القطاع المالي في سنغافورة على أي مركز مالي آخر. لكن جوبتا، من DBS، يعتقد أن إنتاج هذا القطاع يجب أن يرتفع ربما إلى ما يصل إلى 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وظهور سنغافورة مركزا خارجيا للرنمينبي، العملة الصينية، سيكون مفيدا في هذا الشأن. ويقول “إن نظامها القانوني الإنجليزي سيكون أكثر أهمية حتى من ذلك”.

ويضيف “ما يخلق مركزا ماليا جيدا ليس مجرد تجميع للتدفقات “المالية) ولكن سيادة القانون. وفي هذا السياق معظم المواقع البديلة الأخرى في آسيا لا تزال أمامها مسافات لا بد أن تقطعها، وهذا هو الشيء الذي سعت لأجله سنغافورة حقا”. وتخطط سنغافورة لأن تفتتح مطلع العام المقبل، محكمة تجارية دولية سيسمح للقضاة الأجانب بعقد جلساتهم فيها. وسيكون ذلك اللبنة النهائية في محاولة لتحويل سنغافورة إلى أكبر مركز للتحكيم التجاري في آسيا.

ومع ذلك، يقول أحد كبار المصرفيين، “إن السعر الذي ستدفعه سنغافورة حتما لتوسيع نطاق الخدمات المالية هو أنه لديك مزيد من المصرفيين، ولديك مزيد من سيارات الماكلارن على الطريق – ومن ثم لديك زاوية اجتماعية”. وفي وقت مبكر من هذا العام، اعتذر مدير الثروة البريطاني، أنتون كيسي، في وجه موجة من الغضب الشعبي، بعدما نشر مشاركة له على “فيسبوك” يعبر فيها عن ارتياحه لتمكنه من “إزالة الرائحة الكريهة لوسائل النقل العام” عنه، بعد أن أخذ سيارته البورش من ورشة لإصلاح السيارات.

لقد اختبرت هذه الحساسيات الحزب الحاكم الذي تذوق من قبل السخط الشعبي بسبب الهجرة في أعقاب الانتخابات العامة عام 2011. فقد فاز حزب العمل الشعبي فقط بما يزيد قليلا على 60 في المائة من أصوات الناخبين، وخسر ستة مقاعد برلمانية في ما كان أسوأ نتيجة له منذ عام 1965. ويأمل الحزب في الأفضل في الانتخابات المقبلة، المتوقعة في العام المقبل.

ويقول كيشور محبوباني، عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية “في الماضي كان بإمكانك أن تكون واثقا جدا من أن حزب العمل الشعبي سيفوز في انتخابات بعد انتخابات. الآن لأول مرة هناك درجة قليلة من عدم اليقين السياسي”.

ويتصارع حزب العمل الشعبي أيضا مع صعود وسائل الإعلام الاجتماعية الصاخبة، حيث المدونون ينتقدون علنا سياسة الحكومة ويوفرون البديل الشعبي لوسائل الإعلام التقليدية التي تميل إلى تأييد الحكومة.

يقول دونالد لو، العميد المشارك في جامعة سنغافورة الوطنية والمؤلف الرئيسي لكتاب بعنوان “الخيارات الصعبة: تحدي توافق الآراء في سنغافورة”، “إن مختبر السياسة الأصلي حتى الآن، الذي اعتاد صناع السياسة في سنغافورة العمل فيه، هو ما يجري رصده اليوم من قبل الجمهور الأكثر انتقادا وتشككا”.

وقليلون هم من يعتقدون أن حزب العمل الشعبي سينتهي به الأمر إلى الاضطرار إلى تقاسم السلطة مع المعارضة في الانتخابات المقبلة. لكن محبوباني يقول “ماذا بعد ذلك؟ لا يمكنك التنبؤ به. لكن ما أعلمه بالتأكيد هو أنه ينبغي لحزب العمل الشعبي أن يحافظ على إعادة اختراع نفسه”.

ويضيف “إذا كنت ناجحا جدا لفترة طويلة، مثل أي شركة تريد أن تتمسك بها مع صيغك المجربة والمختبرة، ثم فجأة ينبغي لك تغييرها بعد 50 عاما من النجاح. هذا ليس بالأمر السهل”.