IMLebanon

صفقات بالتراضي فاسدة في وزارة المال

LebanonStamps
محمد وهبة

صارت الصفقات بالتراضي هي القاعدة في تلزيمات الإدارات العامة. يجري الأمر بتغطية من مجلس الوزراء الذي يفسّر قانون المحاسبة العمومية على ذوق وأهواء المنتفعين. نتائج كل صفقة من هذا النوع محسوبة سلفاً، أما عيوبها الفاضحة، فيتستّر عليها ديوان المحاسبة. آخر هذه الصفقات ما يجري حالياً في وزارة المال لتلزيم طباعة 780 مليون طابع مالي بمبلغ 10 مليارات ليرة

في مطلع أيلول الجاري، وافق ديوان المحاسبة على عقد اتفاق رضائي لتأمين طباعة 780 مليون طابع مالي لزوم وزارة المال بمبلغ 10 مليارات ليرة، وأحال العقد إلى وزير المال علي حسن خليل لتوقيعه وتنفيذه. موافقة الديوان استندت إلى قرار صادر عن مجلس الوزراء في شباط 2015 الذي يجيز لوزارة المال «عقد صفقات بالتراضي استناداً إلى استقصاء أسعار حتى نهاية عام 2015».

كذلك تضمنت الموافقة «الاستناد إلى المواد 145 و146 و147 من قانون المحاسبة العمومية، وإلى محضر لجنة استقصاء الأسعار، ودفتر الشروط وموافقة الوزير المبدئية».

رأس الفساد

في الواقع، إن هذه الصفقات بالتراضي مغطاة بنحو 17 قراراً صادراً عن مجلس الوزراء منذ عام 2005 إلى اليوم، وكلها تستند إلى الفقرة 12 من المادة 147 من قانون المحاسبة العمومية. مجلس الوزراء هو رأس الفساد، إذ إنه أتاح لوزارة المال إجراء التلزيمات بالتراضي طيلة هذه السنوات الـ15، وفسّر مواد قانون المحاسبة العمومية على ذوقه ووفق أهواء الإدارة المعنية. الفقرة المذكورة تشير إلى أن يمكن عقد الاتفاقات بالتراضي إذا كانت تتعلق «باللوازم والأشغال والخدمات التي يقرر مجلس الوزراء تأمينها بالتراضي بناء على اقتراح الوزير المختص»، إلا أن الوزير المختص، في أي وزارة كان، إضافة إلى مجلس الوزراء، يغفلان أمرين أساسيين:
ــ الأول هو أن الصفقات بالتراضي كما نصّ عليها قانون المحاسبة العمومية لا تتضمن «بدعة» استقصاء أسعار. فهذه البدعة هي «عملية تجميلية» للقول بأن الإدارة المعنية حاولت فتح باب المنافسة المنصوص عنه في المواد المتعلقة بالمناقصات العمومية، كما أن استقصاء الأسعار ليس ملزماً في حالة الاتفاق بالتراضي.
ــ الأمر الثاني والأهم هو أن عقود التراضي هي ليست القاعدة التي يجب أن تسير عليها الإدارات العامة، بل هي الاستثناء. مكانة العقود بالتراضي في قانون المحاسبة العمومية تأتي في المرتبة الرابعة ضمن «صفقات اللوازم والأشغال». في المرتبة الأولى تأتي المناقصات العمومية التي تتحدّث عنها الماود 124 حتى 142. كل هذه المواد تشير إلى أصول عقد الصفقات والإجراءات القانونية لمسارها، كما أنها تحرص على فتح باب المنافسة، وتضع ضوابط على صلاحيات الإدارة والوزير… أما في المرتبة الثانية، فهناك المناقصة المحصورة التي تنطبق عليها كافة مواد المناقصة العمومية باستثناء أن تكون «طبيعة اللوازم أو الأشغال أو الخدمات لا تسمح بفتح باب المنافسة أمام الجميع».
وفي المرتبة الثالثة، هناك استدراج العروض المحصور الذي يتعلق بمجموعة من الاستثناءات الضرورية، سواء كانت أشغال «على سبيل التجربة أو الدرس» أو سلع ذات «طبيعة خاصة» أو مناقصات «لم يقدم بشأنها أي سعر في المناقصة، أو قدمت بشأنها أسعار غير مقبولة»، أو أشغال ولوازم «لا تسمح بعض الحالات المستعجلة الناشئة عن ظروف طارئة بطرحها في المناقصة»، فضلاً عن «خدمات فنية لا تسمح طبيعتها بطرحها في المناقصة العمومية».
ثم يأتي الاتفاق بالتراضي في المرتبة الرابعة، أي إنه يفترض أن يكون الاستثناء لكل ما ورد في المستويات السابقة للصفقات.

عيوب مغفلة

إذاً، أين تندرج صفقة تلزيم طباعة الطوابع وغيرها من الصفقات التي تجريها المالية منذ 15 سنة إلى اليوم؟ الإجابة واضحة في ملف التلزيم بكامله، ابتداء من استقصاء الأسعار «الوهمي»، ثم مدّة التبليغ القصيرة جداً، والتمييز في استدعاء الشركات، فضلاً عن مخالفات مذكورة في تقرير المراقب في ديوان المحاسبة، وصولاً إلى قرار قضاة الديوان بالموافقة على الصفقة من دون أي تعليل… كل هذه الشوائب تبرز في نتائج عقود التراضي التي تنفذها.
وبحسب المعطيات الواردة في ملف التلزيم، فإن وزير المال علي حسن خليل استدعى في 17 حزيران 5 شركات لتقديم أسعار طباعة 780 مليون طابع مالي، وهي: «الأرز للطباعة»، «تكنيكال يونيون»، «مطبعة أنيس»، «الخوري للتجارة»، «بي بلاس للطباعة». قراره يشير إلى خفض مدّة التبليغ إلى ثمانية أيام، إلا أن نصّ الدعوة المرسل للشركات يشير إلى أن تاريخ فضّ العروض في 30 حزيران. طبعاً جرى إغفال تبليغ العديد من الشركات التي كانت ترغب بالمنافسة على هذه الصفقة مثل مطبعة رعيدي وشركة انكريبت وسواهما.
هذه المفارقة لم تكن الوحيدة، فما هو داعي خفض مدّة التبليغ؟ تقول مصادر في الوزارة إن الطوابع مؤمنة لسنتين مقبلتين من الصفقة السابقة، وبالتالي فإن «العجلة» لا تبرر خفض مدّة التبليغ. كذلك يتبين من تقرير المراقب في ديوان المحاسبة أن الشركات تبلّغت في 19 حزيران، أي قبل 5 أيام من فضّ العروض، وهو ما يثير الشبهة.
اللافت أن عدد الشركات التي شاركت في تقديم الأسعار اثنان: «الخوري للتجارة» و«مطبعة أنيس»، وهو أمر كافٍ لإثارة الشكوك، إلا أن لجنة عقد الصفقات بالتراضي فتحت الأسعار المقدّمة ورسّت الصفقة على «الخوري للتجارة» بمبلغ 10 مليارات ليرة بفارق بسيط عن منافستها.
أحيل الملف إلى ديوان المحاسبة. المراقب في الديوان رسم الكثير من علامات الاستفهام على الصفقة وفنّدها. فهو تحدّث عن دفتر شروط فضفاض «لم يتضمن المؤهلات والشروط الخاصة التي يجب أن تتوافر في من يريد الاشتراك في التلزيم سواء لجهة العارض أوالشركة التي يمثّلها، بل اكتفت المادة الثالثة منه بطلب تقديم العارض إفادة أو تمثيل أو وكالة حصرية… من شركة تتعاطى أعمال الطباعة أو تصنيع المستندات الآمنة من دون أي شروط أخرى تثبت مؤهلات الشركات الأجنبية في طباعة الطوابع المالية الحديثة وخبراتها في هذا المجال ودورها في تنفيذ الالتزام. وتجدر الإشارة إلى أن شركة خوري للتعهدات والتجارة لا علاقة لها باعمال الطباعة كما هو واضح من الإذاعة التجارية المرفقة، ما يطرح تساؤلاً عن مدى قدرتها (الخوري) على الالتزام بموجبات الصفقة». الإذاعة التجارية تشير إلى أن شركة خوري تتعاطى أعمال المفروشات للمكاتب والمستشفيات والأدوات الطبية اليدوية، القطن والشاش المطهر، الكفوف الصحية، فيلتر غسيل للكلى، الحليب، مواد التنظيف، الورق الصحي والتواليت، بيع النصوب والبذور والأسمدة الزراعية ومبيدات الحشرات».

وأشار التقرير أيضاً إلى أن دفتر الشروط نص على موجبات تحضيرية للملتزم، ولم يذكر «الموجبات اللوجستية التي تشكّل موجبات اساسية لتأمين سلامة وسرية استلام وتدقيق الطوابع وتوضيبها ونقلها…». أما المستندات التي قدّمتها شركة خوري لتمثيل شركة «IN continu et services» فهي موقعة بتاريخ 19 أيار وتشير إلى أن «خوري تمثلنا في إطار جوابنا على طلب العرض الذي سوف يجري إصداره سنة 2015 من قبل وزير المالية ويحمل الطوابع الضريبية». كلام مثير للاهتمام؛ كيف علم خوري قبل نحو شهر من تبليغه في 17 حزيران، بأن وزارة المال لديها مشروع يتعلق بالطوابع البريدية؟
أما بالنسبة لاستقصاء الأسعار، فقد كان واضحاً أنه جرى على أساس تسعير الصفقة السابقة، إذ طلبت مديرة الخزينة موني الخوري «مقارنتها بالأسعار في التلزيمات السابقة إذ ليس لدينا معطيات عن الموضوع». غير أن تقرير مراقب الديوان ذكر أنه «لا مجال للمقارنة بين السعرين لأن تسعير الطوابع في التلزيم الأول يختلف بين فئة طوابع وأخرى، فيما التلزيم الثاني قدّم سعراً موّحداً لكل فئات الطوابع بقيمة 12.8 ليرة للطابع الواحد». أكثر من ذلك، فإن قيمة التلزيم الجديد أعلى بنحو 105 ملايين ليرة من التلزيم القديم…
خلاصة تقرير المراقب في الديوان فهي الآتي: «هذه الملاحظات تضمنت مخالفات لاحكام المادة 126 من قانون المحاسبة العمومية والمادة 21 من قانون رسم الطابع المالي، لذلك أرى ان تقرّر الهيئة عدم الموافقة على المشروع المعروض».
كل هذه الملاحظات أُهملت. قرّرت الهيئة المعنية في ديوان المحاسبة، برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر، وعضوية محمد الحاج وإيلي معلوف، «الموافقة على المشروع المعروض على أن يبقى اعتدال الأسعار على مسؤولية الإدارة».
كل ما حصل، مهّد الطريق أمام هذه الشركة اليوم، وأمام الكثير من الشركات سابقاً لتوقيع صفقات مشبوهة. مسار الفساد في تلزيمات التراضي وزارة المال عمره 15 عاماً، مثلها مثل الكثير من الإدارات التي يغطّيها مجلس الوزراء وفساد السياسيين.

مديرة الخزينة خبيرة فنية

يظهر ملف صفقة الطوابع الضريبية، أن مديرة الخزينة موني خوري أدت دور «خبير فني» في الموافقة على المواصفات الفنية للطوابع بناء على عرض تقدّمت به شركة «ميديافورم» في 28 كانون الأول 2014. موافقة خوري جاءت بعد يومين على تقديم الشركة عرضها، وجاءت إجابتها على النحو الآتي: «بعد الاطلاع على كتاب شركة ميديافورم الذي تعرض من خلاله اقتراح مواصفات حديثة لطباعة الطوابع المالية، وبعد التدقيق والمقارنة بالمواصفات المدرجة في دفتر الشروط المعمول فيه حالياً، تبيّن لنا أن المواصفات المقترحة تراعي الضمانات والعوامل السرية التي تحمي من التزوير والغشّ إلى حدود مرتفعة جداً، هذا إضافة إلى أن اعتماد الورق اللاصق بدلاً من الورق الشمعي هو سريع وفعال ويجعل إمكانية استعمال الطابع مرّة أخرى مستحيلة». لاحظ المراقب في ديوان المحاسبة هذه المسألة طارحاً تساؤلاً «عن عدم عرض الاقتراح والمواصفات الحديثة على لجنة فنية متخصصة لدراستها وتحديد الحاجة لمثل هذه المواصفات والأسباب الموجبة لاعتمادها، وبالتالي صدور قرار عن وزير المالية بتحديد كميات الطوابع المالية الممكن إصدارها وفئاتها وأشكالها والرقابة على طباعتها عملاً بالمادة 21 من قانون رسم الطابع المالي».