IMLebanon

الحراك انتهى…ما البديل؟

lebanon-manifestation-23-august

 

كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:

فوَّت ما سُمّي بالحراك على نفسه أن يكون شريكاً في صناعة القرار الوطني، على غرار ما حصل في ملف النفايات الذي ما زال في دائرة التعقيد، خصوصاً أنّه حاز على فرصة ثمينة من الشعب اللبناني قبل أن يفوّتها سريعاً على نفسه وعلى البلد. فما الأسباب والبدائل بعد انتهاء علّة وجود هذا الحراك.لم يعُد مهمّاً أن يدعو الحراك إلى تظاهرة تحت هذا العنوان أو ذاك بعد أن فقدَ الحاضنة الشعبية التي كانت تجاوبَت مع دعواته في البدايات، كما تفهُّمَ القوى السياسية التي كان قد تراوَح ردُّ فعلِها بين الترحيب ومدّ اليد قبل أن تعود وتنتقده بقسوة على خلفية تظاهرة الشغب مساء 8 تشرين الأول، وبالتالي أيّ تظاهرة جديدة ستكون مفصولة عن الواقع اللبناني، والنظرة إليها ستكون مشوبة بالحذر والتشكيك.

ففي فترة قصيرة جداً نجح الحراك بانتزاع ثقة الناس، وفي الفترة القياسية نفسها نجح بنزع ثقة الناس وسحبِها. ومن أبرز إنجازاته تحويل موقف الناس من مؤيّد له بقوة ومعترض بشدّة على ممارسات السلطة ضدّه، إلى دعوة الناس السلطة نفسها للتعامل معه بقسوة وحزم حفاظاً على الأمن والاستقرار.

أمّا وبعد انتهاء هذه الحالة نتيجة اهتزاز ثقة الناس التي لا يمكن إعادتها بسهولة، لا بدّ من البحث عن الأسباب التي أوصَلت الحراك إلى الهاوية سريعاً، والاتّعاظ منها للمستقبل، لأنّ دور الرأي العام أساسي في تطوير الحياة السياسية، وممارسة دور الرقيب والحسيب على القوى السياسية، هذا الدور الذي استقالَ منه الرأي العام لفترة طويلة.

أوّلاً، السواد الأعظم من الشعب اللبناني لا يحبّذ العنف، ويفضّل أن تكون الطريق نحو التغيير سِلمية، لا عنفية، خصوصاً أنه عايشَ تجربة الحرب، وراقبَ عن كثب الثورات العربية، وهو غير مستعدّ إطلاقاً لتكرار تجربة الحرب واستنساخ التجارب العربية. فأولوية اللبنانيين هي الاستقرار والتمسّك بنمط عيشهم، وينبذون كلّ مَن يحاول المساس بالاستقرار وأسلوب العيش.

ثانياً، قادة الحراك انتشوا بحجم التظاهرات الشعبية التي تجاوبَت مع دعواتهم، فاعتقدوا أنّ بإمكانهم تجيير الناس وفق أجندتهم، أي أخذهم بالاتجاه الذي يرسمونه ويحدّدونه، فاصطدموا بحقيقة أن الناس تجاوبوا معهم رفضاً للحالة المذرية التي وصلت إليها الأمور في البلاد مطلبياً، ولكنّها ليست بوارد منحِهم الغطاءَ لإدخال لبنان في الفوضى وجعلِه أتعسَ مما هو عليه اليوم.

ثالثاً، الاستعجال والتسرّع وحرق المراحل لطالما جرّ أصحابَه إلى ارتكاب الأخطاء والهفوات، حيث اعتقد قادة الحراك أنّ السرعة القياسية التي أدخلتهم باب الحياة السياسية تخوّلهم الذهاب بخطوات تصعيدية سريعة نحو قلب الطاولة وإسقاط النظام السياسي وتحقيق خطوات نوعية، فكانت النتيجة انسداد الأفق أمامهم.

رابعاً، عدم الواقعية بطرح المطالب يقود أصحابه إلى الهاوية ويؤدّي إلى تعريتهم من السند الشعبي، وهذا ما يفسّر الإجماع حول شعاراتهم المطلبية، والانقسام حول شعاراتهم السياسية. فقوّتُهم ببعدهم المطلبي، وضعفهم ببعدهم السياسي. كما أنّ غياب الواقعية ظهرَ بملف النفايات من خلال رفض كلّ المخارج على قاعدة «عنزة ولو طارت»، فيما كان الأمل أن يساهم الحراك في المخارج وليس فقط بانتقاد السلطة لأسباب شعبوية.

خامساً، غياب التنظيم يلعب دوراً أساسياً في ارتكاب الأخطاء، واعتماد الخطوات المتسرّعة وغير المتوافق عليها، وقد شهدت الفترة القصيرة السابقة تجاربَ عدّة في هذا المجال، من محاولة احتلال وزارة البيئة إلى تحويل وسط بيروت إلى ساحة قتال وغوغائية.

سادساً، القيادة الأفقية أثبتَت فشلها في القيادة السياسية، ولا مهربَ من القيادة العمودية. وإذا كان الاعتقاد أنّ القيادة الأفقية تشكّل مخرجاً من الانقسامات الداخلية، فإنّ مصيرها الفشل عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما حصل مع «الثوّار» الجُدد.

سابعاً، عدم الرغبة في ممارسة النقد الذاتي، بل إنّ الدفاع عن كلّ ما يصدر عن الحراك وتغطيته أدّى إلى ضرب صدقية المنظمين، حيث إن تبرير الفوضى والعنف ورمي المولوتوف والحجارة والتكسير والتخريب بحجَج من نوع أنّ مرَدّ الشغب يعود إلى الحالة التي أوصَلت السلطة الناس إليها، وأنّهم يتفهّمون ردّ فعل الناس، يشكّل عذراً أقبح من ذنب، لأنّ الشغب والفوضى والغوغائية غير قابلة للتبرير.

ثامناً، عدم الأخذ في الاعتبار اللحظة السياسية المتصلة بالفراغ الرئاسي لجهة أنّ إسقاط الحكومة يُدخل لبنان في الفوضى، فيما المطلوب الضغط على الحكومة لتسريع تنفيذ الملفات التي يشتكي منها الناس.

تاسعاً، عدم الأخذ في الاعتبار التوازنات السياسية والطائفية التي يقوم عليها البلد في ظلّ اعتقاد مجموعة صغيرة من النشطاء أنّ باستطاعتهم إسقاط النظام الطائفي الذي عجزت الحروب العسكرية والوصايات الخارجية عن إسقاطه لتركيب سلطة مطواعة للخارج.

عاشراً، عدم الأخذ في الاعتبار طبيعة المرحلة المتصلة بتقاطع القوى الأساسية الدولية والإقليمية والمحلية عند أولوية الاستقرار، بل إنّ تسرّعَهم أفقد الطرفَ الذي كان يأمل بتوظيف حراكهم ضمن أجندته في الوقت المناسب الفرصةَ لاستخدامهم.

فلكلّ هذه الأسباب وغيرها، الحراك انتهى كحالة تشكّل خشبة خلاص للناس من الواقع الاجتماعي-الاقتصادي الذي يعيشونه. وبمعزل عن الأرقام الصادرة عن قوى الأمن بين التظاهرة الأولى التي جمعت حوالي 25 ألف شخص، والتظاهرة الأخيرة التي لم تتجاوز الأعداد فيها الـ 700 متظاهر، فإنّ فرصة الأمل التي شكّلها الحراك للناس انتهت، وبالتالي استمراره محصور بالمجموعات الصغيرة غير القادرة على الفعل والتأثير.

وتأسيساً على ما تقدّم، فإنّ المطلوب وبإلحاح البحث عن البدائل قبل عودة الرأي العام إلى القمقم نتيجة هذه التجربة الفاشلة، فيما شكّلَ خروجُه في المرّة الأولى من هذا القمقم في 14 آذار 2005، بعد 15 سنة حرب و15 سنة وصاية، بارقةَ أمل كبرى للبنانيين بأنّ لبنان قابلٌ للحياة، وحيث يفترض عدم تفويت فرصة خروجه مجدّداً من هذا القمقم للمطالبة بحقوقه الأساسية من أجل التأسيس لحالة وطنية جديدة، لأنّ المدخل نحو السيادة والإصلاح والتغيير والديموقراطية هو بوجود رأي عام حر ومستقل.

فالإيجابية الوحيدة لهذا الحراك تكراراً تكمن في إيقاظه للرأي العام الذي وجَّه رسالة إلى كلّ السياسيين بأنّ الاستهتار بكرامته ومصالحه لن يمرّ، وأنّ العناوين السياسية، على أهمّيتها، لا يجوز أن تطغى على العناوين المعيشية والمطلبية والاجتماعية والاقتصادية، خصوصاً أن لا مواجهة سيادية من دون حدّ أدنى من مقوّمات الحياة الكريمة.