IMLebanon

المسيحيون والنموذج الكردي في زمن الفرز المذهبي!

 

kurdish kurd

 

 

كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:

يقول البعض: لقاءُ معراب مرشَّح ليكون منطلقاً نحو خياراتٍ مصيرية. فليس عادياً أن يتقارب مسيحيّو لبنان في زمن الفرز الطائفي والمذهبي والعرقي في الشرق الأوسط. ولكن، هل يستطيع عون وجعجع وسائر الزعماء الموارنة أن يذهبوا، ويأخذوا أنصارهم، إلى «حيث تجرَّأ الآخرون» قَبلَهم في العراق وسوريا، أيْ الأكراد؟ كثيرون تساءلوا دائماً، في السنوات الأخيرة: لماذا لا يستفيد زعماء الموارنة في لبنان من النموذج الكردي الناجح، الماثل أمامهم في العراق؟

هناك، عندما انفجرت الحربُ المذهبية، وبدأ زمنُ الفرز المذهبي، لم يذهب الطالباني والبرازاني في اتجاهين متناقضين، واحد مع الشيعة وآخر مع السنّة، بل تصالحا بعد صراع مرير، وأسَّسا للأكراد حضوراً إيجابياً داخلَ المعادلة العراقية، يحفظ حضورَ المجموعة الكردية، ويقيم جسرَ حوار مع الشيعة والسنّة، ويحظى بقبول القوى الإقليمية كافة، من إيران إلى السعودية وتركيا.

وهذا التفاهمُ الكردي في العراق، يستفيد منه أكرادُ سوريا. واليوم، ربما تتسبَّب وضعية «حزب العمال الكردستاني» بمتاعب معيّنة على المستوى الإقليمي. لكنّ الأكراد، بزعاماتهم السياسية كافة، لا يعانون من أيّ مأزق لا مع البيئات السنّية والشيعية ولا مع القوى الإقليمية.

لذلك، يفترض كثيرون أنّ لقاءَ معراب يجب أن يكون منطلقاً لما هو أبعد وأكثر ضماناً للمستقبل. ففي استطاعة كلٍّ من عون وجعجع أن يكتفي بقطف ما يراه مناسباً في السياسة من هذا الحدث، ويجلس بين أنصاره يحصي الأرباح. كما يمكن لكلٍّ منهما أن ينطلق من اللقاء نحو شمولية التسوية المسيحية الاستراتيجية.

فالمستحيل الذي تحقّق بين الخصمين السياسيين، «التيار» و«القوات»، يمكن تعميمه على الحلفاء هنا وهناك، كالكتائب و«المردة» والأحزاب المسيحية الأخرى والمستقلّين. وهنا تبدو المهمة أسهل. فليس في ماضي هذه القوى صراعٌ دموي مسيحي كما هو صراع عون- جعجع.

وفي المعيار الإستراتيجي، يمكن تعميم لقاء معراب إذا تمَّ عزله عن الطموحات السياسية، والرئاسية تحديداً، وجرى البناءُ عليه لتأسيس مرجعية مسيحية تستوحي «الجبهة اللبنانية» التي قامت، في العام 1976، قبل أن تستولد الحرب الأهلية صراعاتٍ بين «ديوك» المسيحيين أشرس من صراعهم مع الآخرين.

آنذاك، قامت «الجبهة» على أفكار إستراتيجية لا طموحات شخصانية، وكان فيها المحنَّكون في السياسة من حجم كميل شمعون وبيار الجميل وسليمان فرنجية، ولكن أيضاً كان فيها الكبار في الفكر، لا الوجاهة، من حجم شارل مالك وفؤاد أفرام البستاني وإدوار حنين ومن ذوي العقل في الكنيسة.

إذا أراد عون وجعجع للقاء معراب أن يؤسّس مستقبلاً أفضل للمجموعة المسيحية في لبنان، فعليهما أن ينطلقا نحو مرجعية مسيحية تستوحي «الجبهة اللبنانية»، أيْ البدء في مصالحة مسيحية شاملة تتجاوز الطموحات الشخصية.

فهل يستطيع لقاءُ معراب أن يكون مدخلاً إلى المصالحة المسيحية الشاملة أم إنه سيقيم تحالفات ليضرب أخرى؟

عندما حصلت «أعجوبة معراب»، إستنتج كثيرون أنّ المسيحيين بقياداتهم وقواعدهم الشعبية باتوا أكثرَ نضوجاً، وأنهم اكتشفوا متأخرين، أيْ بعدما أكلوا بعضَهم بعضاً في الحروب، وتسبَّبوا بدمار بيئتهم وإحباطها وهجرة شبابها، أنّ الخراب الذي يصيبهم هو نتيجة طبيعية للتصارع. فـ«كلُّ مملكة تنقسم على نفسها تخرب».

وعبر الشاشة، كان كثيرون في منازلهم يحدِّقون في عيون العشرات من كوادر «القوات» والعونيين في لقاء معراب، وفي عيون عون وجعجع خصوصاً، ليتأكدوا: هل ستكون هناك تلاوةٌ لفعل الندامة وإقرارٌ بالذنب (mea- culpa) هنا وهناك، أم إنّ الأمر لا يعدو كونه التقاءً اضطرارياً للمصالح؟

يجدر القول إنّ أحداً لم يسمع خلال اللقاء من عون ولا من جعجع إعترافاً بمسؤولية عن ذنب اقترفه أيّ منهما، ذات يوم، إزاءَ الآخر، وإزاءَ المسيحيين ولبنان، وإن كان جعجع سبّاقاً إلى خطوة كهذه في ذكرى شهداء المقاومة اللبنانية قبل أعوام. وربما لم يكن هناك وقت للاستغفار في لقاء معراب، لأنّ الصدمة السياسية كانت طاغية. فلا بأس.

بدا مقبولاً، في تلك اللحظة، اعتقاد البعض أنّ عون وجعجع يناوران في السياسة والرئاسة. ولكن كان ظالماً أن يظنّ أحدٌ أن عون وجعجع يناوران أيضاً في المصالحة وتنقية الذاكرة المسيحية. فمناورة كهذه هي من المحرَّمات، بل من نوع «سِفاح القربى» سياسياً.

المؤكد أنّ الرجلين لا يناوران هنا. لكنّ المؤكد أيضاً أنّ سلوك الزعماء أنفسهم لم يتغيَّر، وأنّ القواعد الشعبية المسيحية كلها ما زالت مريضة، وأنّ الزعماء وأنصارهم يحتاجون إلى فترة طويلة من العلاج، تليها فترة نقاهة، كي يتعافوا.

فبعد ساعاتٍ من الغرام المسيحي المستجدّ بين «العونيين» و«القواتيين» في معراب، إشتعلت جبهة بديلة بين «القوات» والكتائب. وفوجئ المراهنون على «صحوة مسيحية» بأنهم خسروا الرهان.

فالقواتيون الخارجون للتو من «معمودية الغفران» مع العونيين، ما لبثوا أن انخرطوا في معارك شرسة مع الكتائبيين، «أهل البيت». والذين رصدوا المنسوبَ الهائل من الحقد المتبادل عبر مواقع التواصل يسألون مذهولين: أين كان مختبئاً هذا الكمُّ من الحقد ما بين «القوات» والكتائب؟ وكيف يتحالف الحزبان سياسياً إذا كان كلُّ هذا التخوين في محلِّه؟

لقد أعطى النزال «القواتي»- الكتائبي إشارة إلى أنّ المسيحيين اعتادوا على الصراعات الداخلية، وأنهم لا يتصارعون بسبب اختلافهم على المسائل المتعلّقة بالمبادئ والمصالح المسيحية والوطنية، بل إنهم يختلفون عشائرياً، وفقاً لما تستدعيه مصالحُ زعمائهم.

فإذا كانت هناك توجهاتٌ متباينة بين معراب والصيفي حول رئاسة الجمهورية- وهذا حقٌّ طبيعي للطرفين في اللعبة الديموقراطية- هل يصبح ذلك مبرِّراً للاحتقان والحقد والغضب المتبادل بين الأنصار المفترض أنهم ينتمون، وانتموا تاريخياً، إلى صفٍّ سياسيٍّ واحد؟

وكان ممكناً أن توصي قيادتا «القوات» والكتائب فوراً بألّا يذهب النواب والكوادر والأنصار هنا وهناك إلى الشتائم والتخوين، على الأقل كما أوصى جعجع والرئيس سعد الحريري، قبل فترة، بضبط فلتان الأنصار وعمليات التشنيع التي تبادلوها.

إنه هنا امتحان الزعامات المسيحية: «الزعامات الكبرى»- عددياً- عليها احتضان القوى الأخرى والاعتراف بمقعد عادل لها إلى الطاولة المسيحية الشاملة، طاولة المرجعية المسيحية المفقودة والسلام المفقود. و«الزعامات الصغرى»- عددياً- عليها القبول بدورها العادل. وهكذا، تبدأ التسويةُ المسيحية. أما التشاطر فلم يقدِّم إلى المسيحيين في تاريخهم سوى الكوارث.

وليس منطقياً التصارع على زعامة القرار المسيحي، فيما المرجعية المطلوبة لاتخاذ هذا القرار، أيْ «الجبهة اللبنانية» أو ما يعادلها، تبدو مستحيلة الولادة لأنّ لا أمّ حنوناً لها ولا أباً صالحاً.

لم يقدِّم زعماء المسيحيين إشارة إلى أنهم جديرون بطمأنة مسيحيّي لبنان إلى مصيرهم، كما يفعل زعماء الأكراد في العراق… أو حتى كما يفعل قادةُ الدروزِ، شركاؤهم التاريخيون في الجبل؟

ولا يوحي هؤلاء بأنهم هيّأوا أنفسهم للنجاح في الامتحان الاستراتيجي الحسّاس مصيرياً، خصوصاً للمجموعات الأقلية. ويبدو صعباً عليهم أن يتلقنوا دروساً في التصميم من الأكراد وفي الحنكة من الدروز.

هل سيكون لقاءُ معراب منطلقاً لتغيير الذهنية الزعاماتية المدمِّرة، ذهنية «رأس الثوم الماروني» السريع الانفراط؟ والمهم أن يأتي الجواب، قبل فوات الأوان. فتاريخ الشعوب والجماعات هو عبارة عن لحظات قاتلة.