IMLebanon

قصّة قانون الإنتخاب المتعثِّر… من “الطائف” حتى اليوم

voting-election

 

 

كتبت ربى منذر في صحيفة “الجمهورية”:

يعيش اللبنانيون على أمل إقرار قانون انتخابي جديد يؤمّن صحّة التمثيل ويلبّي تطلّعاتهم إلى بناء شراكة وطنية فعلية، إلّا أنّ الانقسامات الحادّة وتمسّك كلّ طرف بالقانون الذي يضمن تأبيدَه في السلطة ما تزال تعوق التوصّل إلى مِثل هذا القانون، ما أدَّى إلى شيء من الإحباط لدى الشعب الذي من حقّه الطبيعي اختيار حكّامه بعيداً من المصالح الخاصة والمناكفات والكيديّات.أنهَت لجنة التواصل النيابية المكلفة وضع قانون انتخابي جديد مهمتها باجتماعها الأخير أمس بعد انتهاء مهلة الشهرين المحددة لها، وهي سترفع تقريراً بما أنجزَته الى رئيس مجلس النواب نبيه بري تمهيداً لإعطائها مهلة جديدة لإنجاز مهمتها.

وأعلن النائب جورج عدوان على الأثر أنّ «لقاءاتنا ستتواصل حتّى بعد إعداد التقرير للتمحيص فيه وإجراء القراءة الأخيرة قبل إقراره، لأنّنا اليوم لم نتمكّن من إقراره بسبب تكليف رئاسة المجلس عدداً من أعضاء اللجنة مهمّة السفر الى الولايات المتحدة لموضوع آخر، وفورَ عودة الزملاء سنُنجز التقرير ونَعقد جلسة واحدة لإقراره في صيغته النهائية، ثم نرفعه الى رئاسة المجلس. وبذلك تكون اللجنة أدّت مهمتها ويصبح القرار للهيئة العامة».

وأضاف: «على الهيئة العامة إقرار قانون انتخابيّ جديد في أسرع وقت، كون الدورة العادية ستبدأ ( أوّل يوم ثلثاء) بعد 15 آذار المقبل، وهي الدورة التي ستسبق الإعداد للانتخابات التي ستحصل سنة 2017، وإذا كنّا فعلاً كنوّاب نريد قانون انتخاب جديد علينا إقراره لكي تنصرف الحكومة الى التحضير لانتخابات 2017 وفقَ قانون جديد».

عودة إلى البداية

قصّة اللبنانيين مع قانون الانتخاب لم تبدأ اليوم، وإنّما قبل التوصل الى وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ»إتفاق الطائف» وبعدها. فمسيرة هذا الاتفاق الذي نادى بصحة التمثيل وعدالته في مجلس النواب اصطدمت بمواقف متناقضة للقوى السياسية، على الرغم من أنّه أُريدَ لهذا القانون أن يكون محطة أساسية في إعادة بناء الكيان اللبناني.

وقد اعتاد اللبنانيون منذ تطبيق الدستور الجديد المنبثق من «إتفاق الطائف» عام 1990 الاقتراع في كلّ دورة انتخابية وفقَ قانون انتخاب مختلف لا يبصر النور إلّا قبَيل موعد الانتخابات، لكن ما كان يجمع قوانين الانتخاب هو تعديلها بطريقة تضمَن الأكثرية للسلطة المتعاقبة منذ ذلك الوقت.

قضى «إتفاق الطائف» بوضوح بأن تكون الدائرة الانتخابية هي المحافظة بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري، لكنّ تطبيقه الأوّل عام 1992 جاء استنسابياً. ففي محافظة جبل لبنان اعتُمِد القضاء دائرةً انتخابية واحدة مراعاةً لمطالب النائب وليد جنبلاط، فقُسّم جبل لبنان إلى 6 دوائر إرضاءً له لكنّه كان يخشى من طغيان الصوت المسيحي على الدرزي، فيما دُمِجت محافظتا الجنوب والنبطية بدائرة واحدة، واعتمدت كلّ من محافظات بيروت والشمال والبقاع دائرة واحدة.

لكنّ هذه الانتخابات أنجِزت في ظلّ مقاطعة مسيحية ساحقة وشِبه مطلقة في مناطق عدّة، وقد أدّت هذه التقسيمات الانتخابية إلى الإتيان بالأكثرية الساحقة من النواب المسيحيين بأصوات المسلمين الذين انتخبوا خمسة نواب مسيحيين في الجنوب، و15 في الشمال، و10 في بيروت، و4 في البقاع، وحتى في جبل لبنان فازَ 12 نائباً مسيحياً بأصوات المسلمين، ما يَعني أنّ النواب المسيحيين الذين أتوا بأصوات مسيحيّين لم يتجاوز عددهم 18 نائباً.

عام 1996 قُسّمت الدوائر الانتخابية كالآتي: دائرة محافظة مدينة بيروت، دائرة محافظة البقاع، دائرة محافظتي لبنان الجنوبي والنبطية، دائرة محافظة لبنان الشمالي، دائرة انتخابية واحدة في كلّ قضاء من محافظة جبل لبنان.

وعام 2000، اعتُمد ما سُمّي «قانون غازي كنعان» الذي تضمّنَ إعادة تقسيم معظم الدوائر. فاعتُمِدت محافظة الشمال دائرتين، الأولى أقضية عكّار وبشرّي والضنّية، والثانية المنية وطرابلس وزغرتا والبترون والكورة. وبقيَت الصورة على حالها لجهة غلبةِ الأصوات المسلمة، ففاز 15 نائباً مسيحياً من أصل 15 بأصوات المسلمين.

وقُسّمت محافظة بيروت إلى ثلاث دوائر لم تَحدّ من غلبة الأصوات المسلمة في كلّ منها، وفي النتيجة فاز أيضاً جميعُ النواب المسيحيين بأصوات المسلمين. وقُسّم البقاع إلى ثلاث دوائر هي أقضية زحلة والبقاع الغربي وبعلبك ـ الهرمل كما في العام 1996، ما أفسَح في المجال لانتخاب خمسة نواب مسيحيين بتأثير أصوات مسيحية في قضاء زحلة.

ولم يحصل أيّ تغيير في محافظة الجنوب حيث أُبقِي على محافظتي الجنوب دائرة واحدة، وبالتالي كانت الغلبة الساحقة لأصوات المسلمين، ما لم يُتِح للمسيحيين اختيارَ أيّ من نوّابهم في هذه المنطقة.

وأُدخِلت تعديلات على التقسيمات الانتخابية في الجبل، فأُبقِي على قضاءَي المتن والشوف منفصلين، وضُمَّ قضاءا كسروان وجبيل ليصبحا دائرة انتخابية واحدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قضاءَي بعبدا وعاليه. إلّا أنّ هذه التقسيمات في الجبل زادت الأمرَ سوءاً بالنسبة إلى المسيحيين، إذ منَعتهم من التأثير بأصواتهم في نتائج قضاءَي بعبدا وعاليه، وبالتالي لم يستطيعوا اختيار نوابهم.

واعتُمد القانون نفسُه في انتخابات العام 2005، ولم تتغيّر بالتالي النتائج بالنسبة إلى النواب المسيحيين المنتخَبين بأكثرية ناخبين مسلمين. على أنّه في كلّ الدورات الانتخابية التي جرت بعد الحرب كانت غالبية الأصوات المسيحية تذهب إلى المرشّحين الخاسرين من المعارضة المسيحية.

وفي العام 2009 اعتُمد «قانون الستّين» الذي يقوم على أساس اعتماد القضاء دائرة انتخابية واحدة، ما شكّلَ خروجاً فاضحاً على «اتفاق الطائف» وعودةً بلبنان انتخابياً إلى العام 1960، حيث اعتبَر كثيرون هذا القانون بأنّه «قانون القضاء على الوطن»، على حدّ تعبير الرئيس سليم الحص، لأنّه بالنتائج التي تمخّضَ عنها يوم اعتمادِه شكّلَ أبرزَ أسباب الحرب الأهلية التي عصَفت بلبنان عام 1975 واستمرّت نحو 17 عاماً.

أمّا الانتخابات التي كانت مقرّرة عام 2013 فلم تجرِ، ولم يكن السبب الأوضاع الأمنية السائدة في البلاد بمقدار ما كان العجز عن التوصّل إلى قانون انتخابي جديد نتيجة انقسام القوى السياسية بين متمسّك ببقاء قانون الستين الذي ما زال نافذاً حتى الآن وستُجرى أيُّ انتخابات على أساسه ما لم يَصدر قانون جديد. وبين داعٍ إلى قانون بديل، وكان أن مدَّد المجلس ولايتَه للمرّة الأولى بعد «اتفاق الطائف» حتى عام 2014، ثمّ كرّر هذا التمديد مرّةً أخرى حتى سنة 2017.

«إتفاق الطائف»

الرئيس حسين الحسيني الذي كان رئيساً لمجلس النواب في مرحلة توقيع «اتفاق الطائف»، أكّد لـ«الجمهورية» أنّ «القانون الأنسَب الذي يؤمّن صحّة التمثيل هو نظام القانون النسبي مع الصوت التفضيلي، وكلّ القوانين الأخرى مناقضة لاتّفاق الطائف وللدستور».

ومِن الذين شارَكوا في صوغ «وثيقة الوفاق الوطني» ووضعِ مشروع تعديل الدستور النائبُ والوزير السابق إدمون رزق، الذي قال لـ«الجمهورية»: «في مؤتمر الطائف لم نتطرّق إلى «النظام الانتخابي»، بل وضَعنا المبدأ الأساس لأيّ عملية انتخابية، وهو «تأمين التمثيل الصحيح لشتّى فئات الشعب وأجياله».

لذلك ليس علينا «إختراع» الديموقراطية بل تطبيقها»، مضيفاً: «لم نتطرّق إلى التفاصيل، وبالتالي لم نبحَث في الأنظمة النسبية أو الأكثرية أو المختلطة أو غيرها، أمّا الخَلل فقد حصل بدايةً بتعيين نوّاب لملء المقاعد الشاغرة بالوفاة والمقاعد التسعة المُحدثة للطوائف الإسلامية تأميناً للمناصفة، خلافاً للآليّة المتّفَق عليها، والتي كان مفترضاً أن تبدأ بإعادة النظر في التقسيم الإداري، وهذا لم يحصل، ثمّ إجراء الانتخابات نهاية عام 1994، بعد أن يكون قد تمّ الانسحاب الإسرائيلي وإنهاء القوات السورية مهمّاتها في لبنان، وتكون قد حُلَّت كلُّ الميليشيات والتنظيمات المسلّحة، اللبنانية وغير اللبنانية، وتمَّ بَسط سيادة الدولة بقواها الذاتية على أرض الوطن كلّها، فيتمكّن اللبنانيون من وضع قانون انتخاب صحيح، غير مُعلَّب، لإنتاج مجلس نيابي صحيح التمثيل.

لكنْ جرى تعيين النواب خلافاً للاتفاق عام 1991، وإغراق المجلس النيابي، وتمَّ فرض قانون انتخاب معلّب، فجاء المجلس نتيجة «عدم الانتخاب»، لأنّ 88 في المئة من الشعب اللبناني، من كلّ الطوائف والمناطق، قاطعوا مسرحيّة الانتخابات المزيّفة. وهكذا بدأت المجالس تَستنسخ نفسَها، والرؤساء يُعيّنون، والسلطة تفقد شرعيتَها على كلّ المستويات».

ورأى رزق أنّ «المطلوب اليوم البدء بإعادة هيكلة الدولة، وبناء المؤسّسات، بدءاً بانتخاب رئيس يقود البلاد إلى المصالحة الحقيقية، ويرعى إعادة تكوين المؤسّسات، ويلتزم تطبيق «اتفاق الطائف»، نصّاً وروحاً، يَسهر على الدستور ويكون رمزاً حقيقياً لوحدة الوطن».

وعن النظام الانتخابي الذي يَعتبره الأنسب، قال رزق إنّه «القانون الذي يضمن التمثيل الصحيح لشتّى فئات الشعب وأجياله، بعيداً من منطق الجرّافات والمحادل والبوسطات، أي باعتماد الدائرة الفردية، أسوةً بأعرقِ الدول الديموقراطية في العالم، أو صوت واحد لكلّ ناخب «One man one vote»، مع الإصرار على وضع لبنان في «الحاضنة الدولية»، وإجراء الانتخابات بإشراف مباشَر من الأمم المتحدة، بعد طلب شمول كلّ الحدود اللبنانية بمهمّة قوات الطوارئ الدولية، لأنّ لبنان في وضعٍ لا يمكّنه من استعادة نفسِه بواسطة صفقات إقليميّة ولا الاستسلام للأمر الواقع، وهو مدعوّ إلى أن يكون مثالاً للتعدّد في الوحدة والشراكة الوطنية، لحملِ رسالة حضارية في الشرق، الذي يعجّ بالأنظمة الأحادية والتكفيرية والإلغائية والمغامرات التدميرية التي تَعتبر «المختلف» عدوّاً مهدورَ الدم، سواءٌ بمحاكمة أو من دونها».

وذكّرَ رزق أخيراً باقتراحه في مؤتمر الطائف، الذي تأجّلَ البحث فيه يومذاك، والقاضي بإعطاء البالغين سنّ الثامنة عشرة حقَّ الانتخاب، إنفاذاً لمبدأ «تمثيل الأجيال»، وصولاً إلى اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة وتحقيق «الإنماء المتوازن» والنهوض الاقتصادي واستعادة المكانة والدور عربياً وعالمياً.