IMLebanon

هل ترفع “14 آذار” الراية البيضاء؟

14-march-2005

 

تُحارب 14 آذار طواحين الوقت. على أبواب عامها الحادي عشر، تبدو مصابة بالعجز المبكر. والخيارات المطروحة أمامها واضحة: إما التقاط نبض الشارع مجدداً، أو الاستسلام. في الحال الأولى، يجدر على 14 أن تقرِّر أيَّ نبضٍ لأيّ شارع سيحقِّق الأهداف، وفي الحال الثانية، يجدر أن تقرِّر: أيّ استسلام سيحدُّ من الخسائر؟ليست عملية كفّ اليد السعودية من لبنان هي الضربة الأولى لفريق 14 آذار، ولا هي الضربة الأخيرة. فالقوة التي أُعطيت له في ربيع 2005 لم تتبخَّر فجأة، وبضربة واحدة، بل ذابت كقطعة ثلج تحت الشمس، فإذا بالفريق القابض عليها يكتشف أنه يقبض على الريح.

ولكنّ السعودية، عندما تنسحب وحليفاتها الخليجيات من لبنان- إذا لم تتراجع عن قرارها- تكرِّس نهائياً غلبة المحور الإيراني هنا، لأنّ السعودية تترك حلفاءَها في بحرٍ هائج. والسكوت الذي تلتزمه إيران في مقابل القرار السعودي له مدلولاته. إنه سكوت الانتظار والترقب والتوثُّب.

إذا اعتذر لبنان من السعودية، فيمكن أن تنتهي الأزمة وتعود إلى الدائرة التي كانت فيها. ولكن بالنسبة إلى «حزب الله»، سيكون من رابع المستحيلات أن يعتذر. وهو تالياً لن يسمح للحكومة بالاعتذار لأنّ المال الإيراني، هذه المرة، سيكون البديل من المال السعودي. وهو سيكون مال البترول، ولكن من آبارٍ متجاورة.

وهذه المرة، عندما يرتفع صراخ لبنان الرسمي، مستنجداً، ستكون طهران جاهزة للتبرع. ولذلك، بالتأكيد، يجب أن لا تعتذر الحكومة من السعودية أياً كانت الحيثيات والانعكاسات، لأنّ غضب السعودية ورحيلها عن الساحة اللبنانية حاجة ماسَّة لكسر التوازن التقليدي الدقيق بين المحورين السعودي والإيراني في لبنان.

و«التسوية اللغوية» التي خرجت بها الحكومة في الجلسة الأخيرة، لم يقبل بها السعوديون، من حسن حظّ إيران، ومضوا مع شركائهم الخليجيين في إجراءاتهم التصاعدية. وهكذا، فإنّ خصومَ إيران يساعدونها على الإمساك وحدها بلبنان.

في نظر بعض المحللين، المعادلة مثيرة للدهشة: «حزب الله» أساء إلى السعودية فسحبت يدها من لبنان كله. وهكذا، لن يتضرَّر «الحزب» من الخطوة السعودية لأنه سيستمرّ في الحصول على الدعم من إيران. وأما الآخرون جميعاً في لبنان، ولاسيما 14 آذار، فسيصبحون بلا دعمٍ مقابل «الحزب»، إلّا إذا أوقفت السعودية الهبة المخصصة للدولة وجيَّرتها لحلفائها!

المهم أنّ لبنان الحالي قائمٌ على توازنٍ بين «وكلاءٍ» للسعودية و»وكلاءٍ» لإيران. وانكسار هذا التوازن يعني أنّ «وكلاء» إيران انتصروا في المعركة أو في الحرب.

وعلى مدى 11 عاماً، عرف «حزب الله»، عاماً بعد عام، كيف يستوعب «الخطأ» الذي وقع في ربيع 2005 وأدّى إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان. وإذا لم يتراجع السعوديون عن قرارهم الأخير، وأصروا على عزل لبنان، فسيكون قرارهم محطة مرحلية جديدة وحاسمة في سلسلة محطات 14 آذار الانهزامية، وهي الآتية:

-1 في آذار 2005، هُزِم المحور الإيراني في لبنان بخروج سوريا عسكرياً وانتهاء وصايتها السياسية المباشرة. لكنه قلَّص من حجم الهزيمة بـ«الحلف الرباعي».

-2 في حرب 2006، انتعش هذا المحور في لبنان وبدأ يتوثب للانتقال من الدفاع إلى الهجوم.

-3 في 2008، نجح في خلق توازن دقيق على مستوى السلطة بينه وبين المحور السعودي، مع أرجحيةٍ له.

-4 في 2010، عمد إلى الانقلاب على المعادلة وأمسك بزمام السلطة عملياً، تاركاً في الحكومة وسطية افتراضية تحميه في نظر المجتمع الدولي.

-5 مع اندلاع الحرب في سوريا وانشغال «حزب الله» فيها، قدَّم تنازلاتٍ ظرفية وشكلية لسنّة الاعتدال لكي يُمسكوا بالحكومة والأمن، ويأخذوا على عاتقهم التصدي للتطرّف السنّي والانتحاريين الوافدين من سوريا.

-6 فيما بدأت الحرب في سوريا تسلك طريقها نحو الاهتراء على الأرض، وفيما تراوح المفاوضات عقيمة، بدأ الاهتراء أيضاً في لبنان، وظهر عقمُ الحراك السياسي. وفي ظلّ هذه المرحلة، تتعرّض المنطقة لتحوُّلات استراتيجية كبرى أرساها الاتفاق الأميركي – الإيراني. وتستعد إيران لبسط نفوذها في «الهلال الشيعي».

لقد عرف الإيرانيون كيف يبرمون الصفقة مع براغماتية العقل الغربي، ولو في الشكل، فيما بدا عقلُ المحور العربي المقابل عاجزاً عن القيام بالمثل. وفي الصفقة مع الولايات المتحدة، يبدو أنّ إيران «باعت» اليمن و«اشترت» لبنان وسوريا والعراق من الولايات المتحدة. ولذلك، أراح الإيرانيون «خاصرة» السعودية مقابل ضمان نفوذٍ لهم في العراق وسوريا ولبنان.

وفي تقدير الخبراء أنّ كلاً من إيران والسعودية تنتظر الأشهر الثمانية المقبلة، أي الانتهاء من الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني، لتخطو الخطوة التالية. لكنّ السعوديين ينتظرون رحيلَ الرئيس باراك أوباما بفارغ الصبر، بما يمثل لهم من عجز وإطلاق ليد طهران في المنطقة.

وأما الإيرانيون فيسارعون إلى تحسين ظروف حلفائهم في لبنان وسوريا والعراق، إلى الحدّ الأقصى، ما يسمح لهم بفرض وقائع جديدة على الإدارة الأميركية المقبلة منذ اللحظة الأولى لوصول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض.

وتستثمر إيران خروجها من العزلة الدولية والإفراج عن ملياراتها التي كانت قيد الاحتجاز لتنطلق في مسار يكرسها قوة إقليمية كبرى. وهذه الدينامية الإيرانية تفسِّر ما يتمتع به «حزب الله» من قوة المبادرة في لبنان.

وبناءً على هذه المعطيات، تبدو المرحلة الحالية هي الأخطر على 14 آذار، لأنّ الانكسار هنا ليس عابراً في معركة، بل ربما يكون من الهزائم الأخيرة في الحرب، وعليه ستُبنى النتائج، وهو تتويج إقليمي لمسار من الهزائم والتراجعات المحلية والإقليمية.

يتمتع فريق 14 آذار، شكلاً، بمشاركة وازنة في مجلس الوزراء، لكنّ النفوذ الحقيقي هو لـ«حزب الله» الذي يمنع خصومه من تصحيح العلاقات الرسمية مع السعودية، لكنه لا يقبل المسّ بالعلاقات بين لبنان وإيران، في أيّ شكل من الأشكال.

وهنا يجدر التذكير بالتنازلات الأخيرة التي قدمها بعض أركان 14 آذار، للدلالة على «عجز صامت»، وأبرزها:

  • الاستمرار في الحوار الوطني والمذهبي على رغم أنّ الحوارين باتا فاقدين للأسس التي قاما عليها. وبعدما تجاوز تيار «المستقبل» ملف سلاح «حزب الله» ومشاركته في الحرب السورية، فإنه لم يستطع حتى أن «يمون» على «الحزب» ليكون وسيطاً بينه وبين السعودية، منعاً لخسائر اقتصادية ليس الآن وقتها.
  • يسكت «المستقبل» عن المجريات في ملف الوزير السابق ميشال سماحة ويقبل ضمناً بالمماطلة في عدم إحالته إلى المجلس العدلي… حتى لو كلّف ذلك استقالة وزير العدل أشرف ريفي احتجاجاً.
  • تخلَّت 14 آذار عن مرشحيها لرئاسة الجمهورية وتبنَّت مرشحَي 8 آذار، من دون أن تحصل منهما على تنازلاتٍ في الخيارات السياسية، مع إدراك أركانها أنّ هذين المرشحَين، إذا قُيِّض لأيٍّ منهما أن يصل إلى موقع الرئاسة، سيكون ركناً أصيلاً في محور إيران، ولن يحيد عن برنامجه قيد أنملة. وهذا يعني أنّ 14 آذار قرَّرت الذهاب طوعاً إلى خيارات المحور الإيراني.

إذاً، يخسر فريق 14 آذار على طريقة القضم، بحيث يأتي اليوم الذي سينظر فيه إلى ما كان يملكه من مواقع قوة فلا يجده. والأفضل لهذا الفريق أن يحسم خياراته ويقرِّر: إما الانتفاض جدّياً، وإما الاستسلام جدّياً، لأنّ المرحلة دقيقة واللعبة تقتضي وجود لاعبين جدّيين ومحترفين.

على 14 آذار أن تختار في وضوح وأن تذهب إلى خيارها بجرأة. وإذا كانت تعتقد أنها فقدت الأمل في تحقيق انتصار باتباع أسلوبِ الهجوم، فليس عليها التنازل عن نفسها وثوابتها قطعة قطعة. ولتعرف كيف ترفع الراية البيضاء.

الخسائرُ الكبرى غالباً ما تقع في المعارك الملتبسة، حيث المقاتلون يتحركون عشوائياً ويدورون حول أنفسهم، فلا يعرفون إذا كانوا في صدد الهجوم أو الانسحاب!