IMLebanon

حرب الإشاعات: لماذا طريق الساحل الجنوبي؟

saadiyat

 

 

كتب ناصر شرارة في صحيفة “الجمهورية”:

تزامنت عملية التصعيد السياسي الأخيرة بين المملكة العربية السعودية و»حزب الله»، مع حرب الشائعات كان واضحاً أنّ هدفها الاستثمار في هذا التصعيد لإحداث ترجمات أمنية له على أرض الواقع.التفسير المعتمد والتقليدي السائد في أجهزة الأمن اللبنانية وفي محافل الأحزاب اللبنانية لتصاعد طفرة الإشاعات الاسبوع المنصرم، يقول إنّها من تدبير أجهزة أمنية معادية ولديها مصلحة في ضرب الحدّ الأدنى من الاستقرار الموجود في لبنان، مع التشديد على أنّه استقرار يَحظى بدعم داخلي وإقليمي ودولي.

لكنّ مجمل هذه المحافل والمراجع يلفت الى أنّ الإشاعات التي أُطلقت هذه المرة عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها (فايس بوك، واتس آب، تويتر، وتوزيع مناشير مكتوبة، الخ…)

كانت مبرمَجة وتمتاز بأنها تنتمي إلى صنف من الإشاعات ذات التوجيه الأمني والسياسي والعسكري الذكي، وأنها كانت تُدار بأسلوب الحرب النفسية الممنهجة التي تعتمد تسلسلاً بانورامياً إقناعياً للمواطن بأنّ البلد ذاهبٌ إلى صدام وتقدّم الإشاعة ضمن ترتيب سياسي وعسكري مترابط ومتدرّج، الأمر الذي يُعرّض متلقيها الى حالة من تصديقها والرغبة في متابعة ملحقاتها بدلاً من متابعة وسائل الإعلام المعتمدة.

ويتمّ في مجال الدلالة على هذا الأمر، لفت الانتباه الى أنّ مسلسل الإشاعات الذي شهده لبنان خلال الايام الاخيرة كان مجزّأً لدى معدّيه الى ثلاث مراحل:

– المرحلة الأولى ركّزت بداية على تسخين المناخ العام وإظهار أنّه ينتقل من حال الاستقرار الجزئي السائد الى حال التفلّت والانتقال الى المواجهة العسكرية في الشوارع.

ضمن هذه المرحلة الاولى، ركّزت الإشاعات على ظهور انتشار مسلّح في مناطق بدا واضحاً أنه تمّ انتقاؤها نظراً لأنها تتّصف بعاملين:

١- ذات صبغة مذهبية معيّنة غالبة ونافرة سياسياً.

٢- تتّصف بأنها عادة ما كانت ساخنة في مرحلة الفوضى التي شهدتها بيروت خلال فترة ما قبل أحداث ٧ أيار.

ويبدو واضحاً أنّ مُعدّي هذه الإشاعات أرادوا نكأ ذاكرة الاحتراب المذهبي في بيروت الذي حصل خلال السنوات الماضية، وإسقاط مناخه على اللحظة السياسية الراهنة المتوترة.

ويُلاحَظ أيضاً أنّ توقيت بثّ كلّ إشاعة عن الظهور المسلّح في المناطق، كان يتزامن مع ظهور تصريح سياسي مستفز لشخصية تنتمي الى محورَي «٨ أو ١٤ آذار» في خصوص السجال السائد حول الموقف السعودي الأخير من لبنان. وهذا التزامن يطرح سؤالاً عما إذا كانت هناك غرفة عمليات سوداء تدير عملية بثّ الإشاعات وتوجيهها نحو أهداف معينة؟

– المرحلة الثانية من الإشاعات انتقلت بعد بثّ أجواء وجود حالات استنفار في مناطق معيّنة، للحديث عن حصول اشتباكات فعلية في هذه المناطق، وخصوصاً في تماسات مناطق طريق الجديدة – صبرا – الشياح، وأيضاً مجمل منطقة خط الساحل بين بيروت وصيدا، علماً أنّ أيّ اشتباك أو صدام لم يحدث في أيّ من هذه المناطق.

وأبعد من ذلك، فإنّ معدّي هذه الإشاعات تقصّدوا في محاولةٍ منهم لإقناع المواطن بأنها صحيحة، بثّ إشاعات ملحقة بإشاعات عن بدء الاشتباكات، ضمنها توجيهات إلى المواطنين تلفتهم الى عدم سلوك هذه المنطقة أو تلك لوجود اشتباكات واستنفارات فيها.

ثمّ وفق منهجية التصعيد ذاتها التي تتعمّد اتباع سلوك منطقي ومقنع ومتسلسل بغية إكساب الإشاعة صدقية لدى الجمهور الذي تصل اليه، أخذت الإشاعات تبثّ توجيهات للمواطنين لكي يتقيّدوا بها من أجل سلامتهم، منها مثلاً ضرورة التقيد بسرعة محدّدة أثناء مرورهم على الطريق الساحلي الى الجنوب وذلك لتلافي «عمليات القنص»!

– المرحلة الثالثة، بدأت خلالها الإشاعات توزّع خرائط الهجمات العسكرية التي يستعدّ فريقا الاقتتال «المفترضين» لتنفيذها، وكلها تعتمد سيناريو التحضير لعملياتٍ عسكرية «هجومية وليست دفاعية» تنطلق من مناطق ذات صبغة مذهبية معيّنة ضدّ مناطق محاذية لها ذات صبغة مذهبية مغايرة.

وواضحٌ أنّ هذا النوع من الإشاعات يهدف الى تعميم الخوف المتبادل بين ديموغرافيّتي النزاع السياسي ونشر أجواء داخلهما توحي بأنّ المجابهة بينهما آتية.

مَن هي الجهة التي تقف وراء بثّ هذه الإشاعات، خصوصاً أنها بدت خلال الأسبوع الماضي أنها مدروسة ومبرمَجة، ما يمنح المحلّلين الأمنيين الثقة بأنها ليست عفوية أو من صناعة اشخاص، بل هي صنيعة جهة محترفة ولديها معرفة دقيقة ببسيكلوجية الساحة اللبنانية وليس فقط بأوضاعها السياسية!

الإجابة عن السؤال الآنف تضع اعتبارين في أولوياتها، الأوّل أنها جهة موجودة داخل لبنان ولديها خلايا عمل مسيّسة وتملك قدراتٍ إعلامية ومعرفة دقيقة بحال الأمن في البلد. والثاني أنّ الإشاعات كلها أو بمعظمها هذه المرة كان مصدرها جهة واحدة، على رغم أنها استخدمت أكثر من أسلوب إيصال لحجب نفسها.

وتتمّ في هذا المجال الإشارة الى تركيز حملة الإشاعات الأخيرة على منطقة طريق الساحل الجنوبي التي تشتمل تحديداً على مناطق بشامون – عرمون – خلدة – السعديات – الجية ووادي الزينة.

وكان لافتاً أنّ مسلسل الإشاعات الأخير لهزّ الأمن في هذه المنطقة ركز على بلدة السعديات، توخياً أن يبدأ إشعال الفتنة في منطقة خط الساحل منها. وهذا تركيز لا ينطلق من فراغ بل يحاول الاستثمار على حادثة وقعت في البلدة منذ أسابيع عدة عندما حاصر أشخاص من أهاليها محسوبين على الجوِّ السلفي مسؤولاً لحزب الله داخل منزل أحد عناصر «سرايا المقاومة»، عندما كان يعزّيه، وحينها لم يتيسّر إخراج مسؤول الحزب إلّا بعد تدخل الجيش اللبناني.

إثر ذلك تمركزت مجموعة لـ«سرايا المقاومة» في البلدة من خلال مقار مدنية خدماتية أنشأتها هناك، ولكن عقب ذلك حدثت مناوشات بين بيئة السرايا الوافدة للبلدة وبين الجوّ السلفي فيها.

ويُقال إنّ نقاشاً دار في الحزب عمّا إذا كان يجب عليه ابقاء حيثية خدماتية له في السعديات أم إخلاؤها خدمة لهدف كبح التوتر فيها، خصوصاً أنّ سلفيّي السعديات يختبئون وراء شعارات تيار «المستقبل»، ما يعطي الانطباع بأنّ حركتهم ضدّ الحزب فيها تتّسم بأنها تعبير أهلي وليس حزبياً.

والنظرية التي تؤيّد داخل الحزب دعم بقائه على المستوى الخدماتي في البلدة تنطلق من أنه لا يجب تركها للجوّ السلفي، خصوصاً أنّ موقعها الاستراتيجي المطلّ على الطريق الساحلي الجنوبي المصنّف بأدبيات الحزب بأنه «طريق المقاومة (يربط بين بيروت وصيدا عاصمة الجنوب ومدخله) يمنحها أهمية قصوى من وجهة نظر الأخير الذي يريد إبقاء حركة السلفيات السورية واللبنانية والفلسطينية المندمجة في هذه المنطقة تحت نظره.

ومن وجهة نظر غير طرف متابع لأجواء منطقة الطريق الساحلي الجنوبي، فهي تعتبر بمثابة بؤرة توتر تحتاج لعناية سياسية وأمنية عالية، وذلك نظراً لاعتباراتٍ كثيرة أبرزها أنه يوجد داخل هذه المنطقة نوع من «التساكن» (وليس تعايش) بين بيئات ديموغرافية وفدت إليها حديثاً (بين عامَي 1900 و2015)، واستقرّت فيها بعد هجرات قسرية فُرضت عليها، وعليه يظلّ اندماجها فيها أمراً غير كلي ومعرّضاً للاهتزاز عند كلّ مرة يهتز فيه حبل الاستقرار السياسي أو المذهبي العام في البلد.

ويمكن رسم خريطة منطقة الخط الساحلي الجنوبي الديموغرافية على النحو الآتي: بيئات من أصل نسيج المنطقة السكاني، وبيئات كثيرة وفدت للإقامة بين ظهرانيها، وكانت جاءت متتالية على النحو الآتي: منها بيئات شعبية تنتمي إلى «سرايا المقاومة»، وأيضاً وافدين سوريين أتوا اليها بصفتهم نازحين وهؤلاء يقاربون الـ150 الف نسمة، وبيئات بيروتية أتت لتقيم فيها بين عامَي 1990 و2000 بعدما آثروا بيع منازلهم في بيروت وشراء منازل رخيصة لهم في منطقة الخط الساحلي، وإليهما هناك بيئات فلسطينية قدمت اليها من مخيم صبرا والناعمة واستقرت تحديداً في الناعمة ووادي الزينة.

وبالإضافة الى هذه البيئات هناك بيئة تنتمي الى القاعدة الاجتماعية لـ»حزب الله» قصدت المنطقة لتقيم فيها بعد حرب تموز 2006.

وتتوزع داخل هذه البلدات مساجد معظمها بنيت خلال السنوات الاخيرة ويديرها مشايخ سلفيّون، ويقابل بعضها مصليات أنشأها «حزب الله»، وعادة ما يتسبّب هذا التجاور بحدوث توتر وقلاقل أمنية.

 

أبرز هذه المساجد في عرمون، جامع المصطفى الذي يشتهر بأنّ الشيخ أحمد الأسير كان زاره خلال فترة صعود نجمه. إضافة إلى مساجد أخرى تتبع أجواء سلفية – اخوانية (الجماعة الاسلامية) مشتركة. ويوجد في خلدة جامع الحسين بن علي الذي كان ينشط فيه لفترة وجيزة خلت شيخ لبناني سلفي هو أحد أشقاء أمير «مجموعة الـ١٣» الشهيرة (مجموعة نبعة من طرابلس)، وحالياً يشرف عليه شيخ سلفي سوري.

أما السعديات التي تمتاز بكثافة سورية نازحة فيها، فتُسيطر على مناخها العام «الجماعة الاسلامية» التي تُعتبر القوة الاسلامية الاقوى في إقليم الخروب المفتوح ديموغرافياً وجغرافياً على السعديات، وأبرز رموز الحالة الاسلامية السلفية الاخوانية المتساكنة في هذه البلدة هو (ا- ا).

وفي الناعمة، هناك كثافة سورية – فلسطينية. وفي وادي الزينة كثافة فلسطينية سلفية متعددة المشارب الحزبية، حتى إنّ عناصر «سرايا المقاومة» فيها ينتمون في معظمهم لأصول فتحاوية (نسبة الى حركة «فتح»).

واضحٌ أنّ هذا الكوكتيل الديموغرافي المنتمي الى ذاكرة هجرات قسرية حديثة والذي لا يزال متفاعلاً مع محاور النزاع في الأزمة السورية، يشكل بؤرة توتر قابلة للاشتعال كونه يحمل في تركيباته كلّ عوامل قابليته لأن يكون صدى للتطورات النزاعية التي تحدث في سوريا والمنطقة.