IMLebanon

حتى ولو دعارة… لماذا كلّ هذه القذارة؟ 

super-night-club

 

 

كتبت سابين الحاج في “الجمهورية”:

تحرير 75 فتاة من وكر البغاء في المعاملتين أعاد فتح موضوع ممارسة الدعارة في لبنان على مصراعيه، مقروناً بالاتجار بالبشر. فصحيح أنّ المجتمع بأسره صُعق من هول مشاهد التعذيب التي تعرّضت لها الضحايا، ولكن في ظلّ غياب فرض النظام وتطبيق القوانين وتأمين الحماية للفئات المهمّشة يتفشّى الفساد، وتصبح أية فضيحة متوقعة. يبدو أنّ شبكات الاتجار بالبشر المنتشرة في لبنان لم تخرّب حياة نساء حملتهنّ على ممارسة هذه المهنة وحسب، إنما ساهمت في “خربان البيوت” أيضاً، وكلّ ذلك على مرأى وعلم السلطات التي كانت تعرف وتسكت سكوتاً متواطئاً، و”الساكت عن الحقّ شيطان أخرس”.

الأماكن معروفة

ليل المعاملتين وتعدّياته الصارخة في مجال الإتجار بالبشر وممارسة الفحشاء ليس قصّة جديدة. فمنذ سنوات طويلة يعرف أبناء المنطقة أنّ المعاملتين وكر دعارة وإتجار بالبشر، وأنّ المسيطرين على هذه المنطقة أصحاب نفوذ لأنهم يخترقون القانون الذي يجرّم الدعارة والاتجار بالبشر في لبنان، من دون حسيب أو رقيب.

فاستغلال نساء من جنسيات غير لبنانية، والاستفادة من فقرهنّ وضعفهنّ ليس غريباً عن بلدنا، وأماكنه متعدّدة وغالبها معروفة، يرتادها رجال بحثاً عن جنس سهل المنال.

أصوات كثيرة رُفعت في السنوات الماضية، ودعت إلى وقف الممارسات المشبوهة في منطقة جونية قبل ظهور هذه الفضيحة المدوّية إلى العلن، ولكنها لم تلق آذاناً صاغية ولم تعرها السلطات أيّ اهتمام.

كان أبرزها دعوة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى التكاتف في وجه ما وصفه “بالشر واللا أخلاقية”، خلال زيارته الراعوية إلى منطقة جونية في حزيران عام 2012، وهو أكّد أنّ “هذه المنطقة تشهد شيئاً يتنافى كليّاً مع تعاليم الإنجيل”. وشدّد على أنّنا “لا نقبل أن تبقى أرض منطقة جونية الواقعة تحت أقدام سيدة لبنان ونظر بكركي على ما هي عليه”.

وغَمز إلى الانحلال الأخلاقي بالقول: “أرض لبنان وساحل جونية ليسا برميلاً للنفايات”. ولكنّ كلامه أمام العائلات المحتشدة في كنيسة مار فوقا غدير ذهب في الهواء. فتجّار الجنس والبشر “مدعومون”، ولا يأبهون…

ضرب العائلات

“هذه النفايات” لم تضرب حياة النساء ضحايا الاتجار والدعارة وحسب، إنما ضربت العائلات بدورها.

وتروي فيوليت لـ”الجمهورية” وهي سيدة في الستين من العمر تسكن منطقة جونية، كيف أدمن زوجها ارتياد أماكن الدعارة منذ أكثر من 10 سنوات.

وتقول: “يرتدي ثياباً مرتبة في الليل ويرحل، في البداية كان يقصد منطقة المعاملتين والملاهي الليلية بحثاً عن المومسات، ولكن مع الوقت وبعد تعرّفه الى مشغّلي بائعات الهوى، بات هؤلاء يوصلون الفتيات إلى محلّ عمله، حيث يقفل الباب ليختلي بالفتاة بينما ينتظرها من أوصلها في الخارج حتى تنتهي، لينقلها إلى مكان تواجد الزبون الآخر”.

فيوليت التي ضبطت زوجها بالجرم المشهود أكثر من مرّة مع فتيات سوريات في دكّان يملكه، تعيش مع زوجها حالة انفصال داخل البيت الواحد، حيث بقيت “من أجل الأولاد وخوفاً من كلام الناس”. وتوضح: “لا أسمح لزوجي بأن يلمسني، أنا أشعر بالقرف والاشمئزاز من ممارساته القذرة، وأخاف أن ينقل إليّ الأمراض المعدية جنسياً التي قد تحملها فتيات يعاشرن عدداً كبيراً من الرجال يومياً”.

ردّ الويلات

المهنة الأقدم في العالم، ليست أبداً غريبة عن لبنان بل توطّنت فيه منذ عقود طويلة، وانتشارها الكثيف في بيوت سريّة في حقبة الانتداب الفرنسي دفع السلطات آنذاك إلى تنظيمها بقانون للسيطرة عليها.

فقد أثبتت التجارب عالمياً أنّ حظر هذه الممارسات يدفع إلى دعارة غير شرعية تنتشر في جميع المناطق بعشوائية وحتّى على الطرقات، وتصل إلى الإتجار بالبشر كما هو الحال في لبنان اليوم. أمّا تنظيم مهنة البغاء فيحصرها في أماكن معيّنة ويضبط إيقاعها لناحية الشروط الصحيّة، ورغبة الفتيات بالعمل في هذا المجال بكامل رضاهنّ، كما يحافظ على سلامتهنّ وسلامة الزبون.

وثمّة قانون لبناني صادر في ٦ شباط 1931، يُنظِّم مهنة البغاء، إذ ارتأت وزارة الداخليّة آنذاك، منح تراخيص لفتح بيوت دعارة لضمان استيفاء الشروط الصحيّة، أي التأكّد بأنّ الفتيات يتمتّعن بصحّة جيدة. فكانت الفتاة المرخّص لها تخضع للفحوصات الطبية مرّة كل 15 يوماً، وتحمل بطاقة صحية تعرّف عنها.

وهذا يثبت أنّ لبنان منذ 85 عاماً كان أكثر تطوراً في هذا المجال ممّا هو عليه اليوم، إذ كان لافتاً تأكيد إحدى النساء المحررات من وكر “شي موريس” بأنّهم “لا يجرون لنا التحاليل والفحوصات، والمرة الوحيدة التي أجروا لي فيها تحليل دم، كان عندما اضطررت لإجراء عملية من أجل حصر البول، واتضح أنني أعاني التهابات حادة في الدم”.

 

ففي أواخر الستينيات حاولت الحكومة اللبنانية الحدّ من مهنة البغاء، فأوقفت منح التراخيص لفتح بيوت جديدة للدعارة. تَلت هذه الخطوة الحرب الأهلية في لبنان حيث تفشّت الدعارة في ظل غياب الرقابة، ولا زال الوضع على حاله حتى اليوم.

وأتت الحرب السورية فزادته سوءاً بسبب رغبة العديد من السوريات الفقيرات بالانتقال إلى لبنان للهرب من الموت، فبتن يعملن في الدعارة برضاهنّ لتأمين لقمة العيش أو يتمّ استغلالهنّ وإخضاعهنّ من قبل تجّار البشر.

ضحايا كثر

وإذا كانت الفضيحة اليوم طالت الفتيات السوريات وصعقت العالم بهول فظاعة ما يتعرّضن له، إلّا أنّ استدراج البنات الأجنبيات للعمل في مجال البغاء المحلي طاول جنسيات عديدة وبينها الروسية والرومانية والبيلاروسية والأوكرانية… وذلك لجمالهنّ ولقدرتهنّ على إشباع رغبات الزبون اللبناني والعربي الذي “تغويه الأجنبية الشقراء”.

ومن قال إنّ الفتاة التي تُستقدم من أوروبا الشرقية ويتم إيهامها بأنها ستعمل في مجال الاستعراض، لا يتمّ ضربها وتعنيفها لكي تخضع لشروط العمل في الدعارة بعد أن تمّ خداعها وسحب جواز السفر منها فور وصولها إلى لبنان؟

فعدم منح الدولة التراخيص لفتح بيوت دعارة مراقبة من السلطات، وغضّها النظر عن الممارسات المشبوهة في بعض الأماكن وعدم إيقافها، جعل القائمين على الملاهي الليلية Super Night Club يستقدمون الفتاة من الخارج بعقد عمل “استعراض”، ويجبرونها على الخروج في اليوم التالي مع من اختارها من الزبائن وفَتَح لها زجاجة خمر خلال السهرة. ويدفع لها القوّاد بعض المال، فترضخ وتتأقلم وتصبح الدعارة نمط حياتها.

التنظيم والرقابة

ويبقى السؤال، إلى متى كلّ هذا الاستغلال للبشر، وكلّ هذه الفوضى وهذا الفساد؟ إنّ قبول الدولة والمجتمع بواقع عدم القدرة على كبح الدعارة إنما تنظيمها، قد يشكّل سبيلاً للسيطرة عليها والحدّ من توسّع انتشارها ومن تجارة البشر والعبودية في إطارها، ولكن طبعاً إذا تمّ تطبيق القانون والسهر عليه لناحية الالتزام بشروط عمل المومسات والشروط الصحيّة المفروضة.

إنّما في دولة “حاميها حراميها، حيث يقوم رجل الأمن المولج حراسة أماكن السهر، بالاستفادة من خدمات بنات معروضات للبيع وذلك مجّاناً مقابل سكوته عن مشغّليهم”، فإنّ أيّ قانون يوضع قد يتمّ الاستهتار به ومخالفته.

وها هو أحد مُرتادي منطقة المعاملتين والعالمين بخباياها، ينقل لـ”الجمهورية” أنّ “عدداً من رجال الأمن في المنطقة يقبضون المال مقابل سكوتهم عن القوّاد، وينتقون من البنات العاملات في مجال الدعارة ما طاب لهم وذلك مجاناً لغضّهم الطرف عن الواقع الشاذ والمخالف والصادم”.

وفي حال صحّ هذا الواقع الفاسد المتواطىء، لا يمكن الحلم بغد أفضل لا في هذا القطاع ولا في غيره مهما سُنّ من قوانين. والمؤسف أنّ المرأة التي تشكّل الحلقة الأضعف، غالباً ما تدفع الثمن.