IMLebanon

“سوق الحميدية” بضواحي بيروت: أهلاً بكم في سوريا

hamidiya market

 

 

كتبت ربى منذر في صحيفة “الجمهورية”:

لم تنقل الأزمة السورية مواطنيها الى لبنان فحسب، بل نقلت معهم أسواقها، وقد تكون سوق الحميدية بالنسخة اللبنانية خير دليل على مدى اجتياح “الأشقاء” لبلدنا. فهذه السوق شكّلت ملاذاً لهؤلاء الذين شرّدهم النزاع السوري، خصوصاً أنّ الدولة في نومٍ سريري، لا وقت لها للمحاسبة أو الرقابة، فأهلاً بكم في السوق التي فتح فيها التجار “كلّ ما لذّ لهم وطاب”.تدخل منطقة الرحاب وتقترب من مقابر الشهداء في صبرا، فتستقبلك سوقٌ، هي عبارة عن مبنى يَجمع صناعاتٍ وتجاراً سوريّين، من دون أيّ تراخيص أو إذن عمل أو رقابة من الدولة، ما يدلّ على الفوضى القائمة في لبنان.

سوق الحميدية في سوريا هي من أشهر الأسواق القديمة، وهي قريبة من قلعة دمشق وتقع في منطقة سياحية، طولها نحو 600 متر وعرضها 15 متراً، وتصطف المحال على شمالها ويمينها، وكانت مسقوفة بالخشب ثمّ بالحديد بعدما شبّ حريقٌ داخلها. أما في لبنان فهي مستنسَخة بصورة أقل تنظيماً، تغيب عنها في بعض المحال أدنى معايير السلامة، حيث يخال للزبون أن لا شيء مشتركاً بين السوقين غير الإسم.

ويقول أحد التجار “نفتش باستمرار على وجوه كانت تزورنا في سوق سوريا، فلا نجدها ولا نراها”، مؤكّداً أنّ “غالبية التجار هم سوريون”.

التسعيرة

“الساعة بـ15000، ولإلكن بـ13000، وأنا بضمن إنو لونها ما بيحلّ”، بهذه العبارة يُغري البائع زبائنه الذين يطالبون بتخفيضٍ مستمرٍّ للأسعار، فهوية الزوار من هوية السوق، ومعروفٌ أنّ مَن يقصد هذا القاطع غالبيته من الطبقة الفقيرة، ويؤكد أصحاب المحال أنّ “البضائع هي نفسها الموجودة في الأسواق اللبنانية وإنما بأسعارٍ أرخص”، وهو ما يدلّ على المنافسة القوية التي يشكلها هؤلاء على التجار اللبنانيين.

بين محالٍ تبيع الملابس، الى أخرى تحاذيها لتبيع الحلويات، بالتلاصق مع غيرها المختص بتركيب العطور، تضيع رائحة المكان، في ظلّ معايير سلامة شبه غائبة.

تقترب من محل للأحذية، فيبادر صاحبه بالسؤال البديهي “بشو بتحبو ساعدكن؟”، تنظر إليه فترى حزناً عميقاً في عيونه، وعلى جسده النحيل ثياب رثة أجبرته الأحوال على ارتدائها، “كيف تحتملون الطقس الحار يا عم؟”، يبتسم بسخرية على قدرٍ وضعه في مكانٍ لم يرده، “بدنا نتحمّل كل شي تنعيش، مش أحسن ما نشحد؟”، فيقفز ولد من داخل المحل دفعته حشريته لسماع إجابات عن أسئلة غير معهودة في السوق، فهناك المصيبة تجمع الكلّ ولا حاجة للسؤال عن الدافع الذي يجعل التجار يحتملون الحر أو البرد، فالإجابة معروفة.

يقترب منا لنسأله، “وين أحلى لبنان أو سوريا؟”، فيقاطعنا والده ليقول “إذا أكلنا تراب ببلدنا منكون مبسوطين أكثر”، فيبتسم الولد ابتسامة تحمل في طياتها الكثير من العتب على وضعٍ لا يفهمه، على أشخاصٍ قرّروا تغييرَ مصيره من طفل يلعب في الحي الذي وُلد فيه ويذهب الى المدرسة التي يرتادها أصدقاؤه، الى طفلٍ يجلس مع والده في محل لبيع الأحذية ليؤمّنا لقمة عيشهما.

ضرائب لجهات سياسية

يؤكد أحد التجار أنه يدفع شهرياً ضرائب عالية لجهات سياسية وللبلدية، ويشير الى أنّ “محال سوق الحميدية موجودة أساساً في السوق السورية، وقد فتحت فروعاً ثانيةً لها في لبنان”، ويُقال إنّ البضاعة التي تباع فيها هي شامية بأسعارٍ مشكّلة ما بين غالٍ ورخيص، روّادها سوريون بغالبيتهم وبعض اللبنانيين الذين اعتادوا زيارة سوق الحميدية في سوريا.

بماركات عالمية مكتوبة بخط اليد على زجاجات عطور مركبة، يتهافت البائعون “لاصطياد” الزبائن. “ما الفارق بين عطوركم وعطور المحل المحاذي؟” يجيب البائع: “الروائح المركبة لدينا تشبه تلك الأصلية بنسبة 90 في المئة، أما لدى جيراننا فتشبهها بنسبة 60 في المئة”.

وعندما تسأله عن المواد الموضوعة فيها وما إذا كانت تسبب الحساسية، يقاطعك فوراً “شو ما صار، فيكن تردّوها”، موضحاً أنّ “أسعار الزجاجات تبدأ من الـ5000 ل.ل. ولإلكن رح جرّب قدر المستطاع قرِّب من الرائحة الأصلية”.

عالمٌ مستقل

“سبب فتحنا هذه السوق هو غياب الأمن في سوريا ووضع الليرة السورية التي منعت الناس من الشراء، وهو أفضل من الانتقال الى مناطق أخرى في سوريا لأنّ المشكلة هي نفسها”، يوضح أحد التجار، ليقاطعه آخر قائلاً “افتتاحنا لهذه السوق هو نتيجة طلب الناس الذين كانوا يقصدون سوق صبرا ويشترون منها”.

هو عالمٌ مستقل بحدّ ذاته، فيه كلّ ما يخطر في بالك، ومن ضمن الموجود شركات شحن تقدّم خدمات للسوريين الموجودين وتحوّل أموالاً من لبنان الى سوريا، وفقط بالليرة اللبنانية الى السورية وليس بالدولار، إضافة الى الثياب والأحذية مروراً بالطعام والبهارات والنحاسيات والمصنوعات السورية والعطورات الخ.

وللتجار اللبنانيين حصة في السوق إلّا أنها محدودة وصغيرة، ولا يطمح هؤلاء لافتتاح فروع لمحالهم في سوق الحميدية في سوريا إذا تحسّنت الأوضاع، في وقتٍ يؤكد التجار السوريون أنّ الفروع اللبنانية ستبقى مفتوحة لو أعادوا تشغيل تلك السورية.

تسويق للممنوعات

وبعكس ما يُشاع، فإنّ الفوضى غير القانونية ليست داخل السوق وإنما الى جانبه على مداخل المقبرة، حيث تتمركز مجموعة بسطات يستفيد منها عددٌ من العصابات وتجار المخدرات، تبيع أفلاماً وأقراصاً مسروقة عن تلك الأصلية، وتمرّر المخدرات من حينٍ الى آخر، وهي محمية من جهات، تأخذ منها المال في المقابل.

إذاً هو مكان تتبعثر فيه الحكايا والقصص، أحاديث توحي بمدى بساطة شعبها، أشخاص وضعهم قدرهم في المجهول، أولاد يرون مستقبلهم يضيع أمام أعينهم، وأهل ليس بأيديهم حيلة لإنقاذهم. بسطات تنتشر على الجنبات، أصوات تصدح في كلّ مكان، نسوة، أطفال، صبايا، وشباب، شكّلت السوق ملاذهم الوحيد.

وفي ظلّ كلّ المشاهدات عن أشخاص لم تكن الحياة عادلة معهم، تُطرح سلسلة من الأسئلة عن الزحمة غير المُدارة، عن غياب الدولة عن هذه السوق الغامضة التي لا يُعرف مَن هم مسؤولوها ولا مَن يديرها ولا مِن أين تُستورد بضاعتها، ولا إن كانت تخضع لمعايير السلامة والنظافة. ولكن مهما كانت الظروف وراء بناء هذه السوق التي تفوح منها الرائحة الدمشقية، يبقى السؤال الأهم: هل بات لبنان نسخة عن المجتمع السوري؟