IMLebanon

40 عامًا على رحيله….ولا يزال يشدو!

 

تقرير محمد كريم في صحيفة “العربي الجديد”:

كان 30 آذار 1977، يوماً مشهوداً في شوارع القاهرة، حيث أضخم جنازة شعبية في تاريخها، بعد جنازة الرئيس السابق جمال عبد الناصر. لقد رحل “العندليب الأسمر” بعد رحلة فنية جاوزت في طبيعتها علاقة الفنان الكبير بالجمهور العريض.

أسهمت العديد من العوامل في أن يحظى عبد الحليم حافظ (1929-1977) بمكانته هذه بوصفه ظاهرة فنية نادرة التكرار، لعلّ من أهمها أنّ بداياته الفنية الحقيقية صاحبت ثورة يوليو 1952، التي جاوزت الواقع السياسي إلى التغيير الاجتماعي الشامل. فقد أجيز حليم في الإذاعة وعرفته الجماهير سنة 1952، بعد أن قدم أغنياته المبكرة “يا حلو يا اسمر” و”صافيني مرة”، وكلاهما من كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي، وربما سبق ذلك بعام واحد فقط غناؤه قصيدة “لقاء” لصلاح عبد الصبور، من ألحان كمال الطويل.

 

 

عانى حليم في بداية الأمر من تلقي الجماهير لهذا النوع من الغناء، فالذائقة الفنية السائدة لم تستسغ طريقة أدائه، وكان عدد من الفنانين لا يتوقعون له الاستمرار بهذا الأسلوب الغنائي “الطري”، على حد وصفهم، فيروي أهل الفن أنّ عبد الحليم ذهب في بداياته لزيارة الفنان محمد عبد المطلب، وحين استمع عبد المطلب صاحب الصوت الجهوري إلى عبد الحليم لأول مرّة انفجر ضاحكاً بطريقة هستيرية، حيث لم يعتد سماع هذا الأداء الناعم من قبل، وقد سبّب ذلك حرجاً شديداً للعندليب. لم تختلف ذائقة الجماهير آنذاك عن ذائقة عبد المطلب، فقد تعرّض عبد الحليم لقصف من السخرية والشتائم والسباب بعد أن استمعوا لأول مرة له في أغنية “صافيني مرة” التي لاقت بعد عدة سنوات نجاحاً كبيراً، حين أعاد تقديمها في فيلم “لحن الوفاء” 1955.

ولعل الظروف الاجتماعية التي عانى منها عبد الحليم في نشأته يتيماً، ثم صموده وكفاحه لإثبات موهبته الفنية المطمورة في الظل زمناً طويلاً، ثم التحول العام للشخصية المصرية بعد سقوط الملكية، إضافة إلى مرضه بالبلهارسيا الذي تفاقم مبكراً سنة 1956، وصاحبه في رحلته الفنية، كل ذلك أسهم في أن يحظى عبد الحليم حافظ بقدر كبير من التعاطف، وإعادة النظر إليه باعتباره رمزاً لمرحلة فنية جديدة اتسمت بالرومانسية الحالمة التي تربع العندليب على عرشها حتى رحيله. وقد قال عنه الأديب الكبير نجيب محفوظ: إن عبد الحليم بطل درامي لرواية ذات فروع وأحداث كثيرة، إنّه بطل مأساوي، هذا هو عبدالحليم حافظ.

ويمكن أن يقال إن عبد الحليم حافظ ولد فنياً مع الثورة، ويقول عنه الأديب الكبير نجيب محفوظ: “أغنيات عبد الحليم مفتاح، فتح له قلوب الجماهير، وأغنياته الثورية على كل لسان”.

 

 

فقد اندمج عبد الحليم بفنه في أجواء العهد الجديد، وقدم أعماله بوصفه أحد جنود الثورة، وكان مقرباً جداً من جمال عبد الناصر، بالرغم من أنه أدى في بداية مشواره أغنية للملك فاروق بمناسبة زفافه على الملكة ناريمان، قدم حليم أغنية “تهاني” كلمات محمد عبدالغنى حسن، وألحان عبدالحميد توفيق زكي، وأذيعت يوم 3/5/1951، وهو أمر كان سائدا في أوساط الفنانين آنذاك، وقد فعلها من قبل عبد الوهاب وأم كلثوم، لكن عدم شهرة العندليب في ذلك الوقت طمر هذه الوصمة زمناً طويلاً، حتى كشفها أخيراً المؤرخ الموسيقي د.نبيل حفني، بعد رجوعه إلى سجل الإذاعة المصرية في كتابه “الغناء المصري.. أصوات وقضايا”.

بدأ عبد الحليم أغانيه الوطنية الناصرية سنة 1952 بأغنية “العهد الجديد” كأول نشيد وطني، من كلمات محمود عبد الحي وألحان عبد الحميد توفيق زكي، ثم أغنية “احنا الشعب” سنة 1965، بعد تنصيب عبد الناصر رئيساً للجمهورية سنة 1956، ثم تعددت الأغنيات الوطنية بعد ذلك، مثل “على أرضها”، و”ابنك يقولك يا بطل”، “وحكاية شعب”، و”مطالب شعب” و”صورة”، و”عدّى النهار”، و”احلف بسماها” و”البندقية اتكلمت”، وغيرها، واندماجاً مع القومية العربية غنّى العندليب للقدس “أغنية المسيح”، وللقضية الجزائرية “الجزائر” و”الوطن الأكبر” وغيرها.

وبالرغم من شهادة سامي شرف، سكرتير الرئيس، بأنّ عبد الناصر كان يحب عبدالحليم ويعتبره ابنًا له، فإنّ الواقع كان يشهد عكس ذلك، فقد ظلّ هاتف العندليب مراقباً من المخابرات مثل جميع الفنانين زمناً طويلاً، وبعض الكُتّاب يرى أن وطنية عبد الحليم وحبه الشديد للزعيم، وقربه الشديد منه ومن أسرته، لم يشفع له كي يحصل على التقدير والمكافأة التي يستحقها على المستوى الرسمي، فجمال عبد الناصر لم يصدر قرارًا بعلاج العندليب على نفقة الدولة، مثلما فعل مع آخرين أقلّ منه فناً وولاء، ولم يشعره بالاهتمام والرعاية، وأقصى ما يروى عن حب عبد الناصر له هو زيارة له مرة واحدة في مرضه، وبعض جمل المجاملة المقتضبة! كما أنّ عبد الناصر لم يكرم عبدالحليم في أي مناسبة، ولم يمنحه أي وسام كما فعل مع أم كلثوم وعبدالوهاب في عيد العلم عام 1965، وكما حدث مع فريد الأطرش الذي حصل على قلادة النيل من الطبقة الأولي، بالرغم من أنه لم يغنّ أبداً للزعيم أو للثورة.

 

 

وإجمالا، فقد قدم عبد الحليم أكثر من 250 أغنية، بعضها لم يتح للجماهير الاستماع إليه، إذ تمّ تسجيلها بصفة شخصية، وقد حصر صديقه مجدي العمروسي معظم أعماله في كتاب بعنوان “كراسات الحب والوطنية” الذي يعد أهم مرجع عن حياة العندليب الفنية. إضافة إلى ذلك، قام عبد الحليم ببطولة 16 فيلماً سينمائياً، وقدم مسلسلاً تلفزيونياً واحداً هو: “أرجوك لا تفهمني بسرعة”.

وبالرغم من رحيل عبد الحليم حافظ سنة 1977، وهو في السابعة والأربعين من عمره، فإنّه لا يزال يحتفظ بمكانته في قلوب الجماهير بأغانيه العاطفية والإنسانية، حتى أغانيه الثورية ذات الطابع الناصري فقد كان العندليب صادقاً في أدائها، وهو سر خلودها وبقائها في ذات الوهج حتى يومنا، ولذا قال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عنه: “سيظل النغم الحلو الذي يشدو في أذن الملايين مدى الحياة”.