IMLebanon

لا داعي للأوهام حول الخلاف بين موسكو وواشنطن!

كتب أحمد أبو دوح في صحيفة “العرب” اللندنية:

أزمة السويس، المعروفة في مصر بـ“العدوان الثلاثي”، عام 1956 كانت أحد محددات العلاقة الملتبسة آنذاك بين الغرب والاتحاد السوفيتي. التصعيد الذي كاد يدخل الجانبين في حرب نووية مفتوحة لم يكن سوى عامل مساعد كي يخدم على قنوات التواصل السرية التي حسمت الأزمة وقتها.

كان الأمر يشبه عملية اختبار الأرض ورسم حدود النفوذ عبر رسائل الرفض والتشدد في الممانعة، قبل طرح الكلام الجدي على الطاولة الذي يؤدي إلى جني المكاسب الحقيقية.

اليوم يعيش العالم تكرارا لنفس المرحلة، لكن بمعطيات مختلفة. التصعيد المفاجئ والسريع بين الجانبين ليس إفرازا لخلافات عميقة، وليس مقدمة لقطيعة تحيي أجواء الحرب الباردة مرة أخرى. التصعيد اليوم هو جزء من صراع محسوب جيدا لتجميع أكبر قدر من النقاط، تمهيدا للجلوس على طاولة التفاوض.

الخلافات بين الروس والأميركيين ليست بالعمق الذي تبدو عليه. المشكلة أننا لا نقف قليلا ونفكر: لماذا قرر دونالد ترامب وفلاديمير بوتين فجأة افتعال صراع؟ ما هي الملفات الطارئة التي أنهت روابط الود التقليدية خلال أقل من ثلاثة أشهر فقط؟

ليست ثمة إجابة مقنعة. الحقيقة هي أن الخلافات بين الجانبين لا تطغى على نقاط الاتفاق التي تجمعهما.

في الملف السوري مثلا، لا تريد إدارة ترامب الإطاحة بنظام بشار الأسد، على الأقل في الوقت الراهن. بالطبع هذا آخر ما يتمناه الروس أيضا. لكن الجانبين يدركان أن الأزمة السورية لا يمكن أن تستمر إلى ما بعد انتهاء ولاية ترامب الأولى، وأن هذين الرئيسين (بوتين وترامب) الموجودين حاليا في كلا البلدين، سيحملان على عاتقهما الوصول إلى حل يضع حدا لها.

الحكومتان في البلدين تؤمنان بأن الشخصيات التي تمثل المعارضة سياسيا في الائتلاف السوري المعارض غير مؤهلة للحكم. الاتفاق بينهما ينسحب على نظرة كل بلد إلى فصائل المعارضة المسلحة أيضا. واشنطن قبل موسكو تعرف أن الجهاديين والمتشددين يمثلون البيئة الأوسع التي ستهيمن على سوريا، كدولة ومجتمع، إذا سقط الأسد الآن.

لم يكن غريبا إذن أن تخصص الولايات المتحدة أغلب الدعم المالي والعسكري لقوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد، تجنبا لأي مخاطرة قد تنتج عن محاولة التصرف بمسؤولية وسط هذه الشبكة المعقدة من المتشددين. كل من بوتين وترامب ينظر بريبة إلى النفوذ الإيراني الذي زاد عن حده في سوريا. من مصلحة كليهما أن يتم احتواء هذا النفوذ وملء الفراغ الناتج عن ذلك بقوى عربية سورية أو غير سورية، تسهم لاحقا في ترسيخ الحل النهائي.

التهديدات الأميركية بتوجيه المزيد من الضربات العسكرية إلى نظام الأسد، وبفرض عقوبات جديدة على روسيا لا تساوي شيئا في معادلة التوازن الكبرى بين القوتين. في أزمة السويس، هدد الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف بضرب لندن وباريس بصواريخ تحمل رؤوسا نووية. لم يصل أي تهديد بين الجانبين إلى هذا الحد سوى خلال حصار برلين قبل أزمة السويس، وفي خضم أزمة الصواريخ الكوبية بعدها.

لكن لا خروتشوف في موسكو ولا دوايت إيزنهاور في واشنطن كان يريد لهذه الأزمة أن تندلع من الأساس. البناء على رؤى البلدين قاد تلقائيا إلى احتوائها والتوصل إلى انسحاب فرنسا وبريطانيا وإسرائيل من مصر.

الصخب المتبادل بين الجانبين هو تعرج لا بد منه في خط العلاقات يسبق مرحلة استقامته. كل فريق يحشد ما يملك من أوراق. هذا يشمل كل أبعاد العلاقة بين الشرق والغرب.

الأمر يشبه حشد الجيوش استعدادا لدخول معركة عسكرية حاسمة. اليوم ستكون المعركة جيوسياسية ودبلوماسية واقتصادية، لكن ليس أكثر من ذلك.

في أوكرانيا صار الأمر محسوما. لا مجال لتخلي الروس عن شبه جزيرة القرم التي كانت تاريخيا جزءا من الأراضي الروسية، قبل أن تسلمها روسيا إلى أوكرانيا ضمن ترتيبات إدارية داخلية بين دول الاتحاد السوفيتي. الغرب يبدو مقتنعا بوجهة نظر بوتين، ومستعدا لنسيان مسألة القرم وطي الصفحة والتعامل مع الأمر الواقع الذي فرضته موسكو.

تبقى قضية وضع أوكرانيا من الناحيتين الإستراتيجية، ومشكلة العقوبات المفروضة على روسيا. في ظل إدارة رجل مثل ترامب، الذي يبدو مستعدا للتعامل مع السياسة الخارجية بمرونة التاجر وعقليته التي تقبل دائما هامشا للمغامرة، هذه مشكلة قابلة للحل بعد تقديم بعض التنازلات من الجانبين.

هذه التنازلات صارت ممكنة لأن رؤية ترامب شهدت تغيرا ملحوظا في وقت قصير نسبيا.

لنتذكر قناعات ترامب في السياسة الخارجية قبل أن يتولى رسميا الحكم. هذا رجل كان يحمل خصومة حادة تجاه الصين على سبيل المثال. أين يبدو خط العلاقات بين البلدين بعد زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى واشنطن؟ ترامب لخص الشكل الجديد في العلاقات عندما تحدث عن “أواصر صلة بدأت تتوطد” وعن “كيمياء” تجمع بينه وبين الرئيس الصيني.

الأمر تكرر مع حلف الناتو. لم يكن ترامب في أي مرحلة من المناصرين للحلف لأنه كان يؤمن دائما بأن مساهمة حلفائه الأوروبيين في ميزانية الحلف، مقارنة بالميزانيات التي تقدمها الولايات المتحدة، غير كافية.

مقاربة ترامب كانت مخاطرة بإنهاء مبدأ “الولاء للرأسمالية مقابل الحماية” الذي كان يحكم علاقة أميركا وأوروبا خلال الحرب الباردة، واستبداله بنظرية جديدة تماما تقوم على “الدفع مقابل الحماية”.

أين وصلت هذه النظرية اليوم؟ توقفت عند منصة المؤتمر الصحافي المشترك بين ينس ستولتنبرغ الأمين العام للناتو وترامب الذي تراجع كثيرا قائلا “كنت قد قلت إن الحلف عفّى عليه الزمن.. لم يعد كذلك”.

الرئيس الأميركي يلجأ إلى الخطة القديمة في مقاربة الولايات المتحدة تجاه روسيا. حصار النفوذ الروسي لن يكون سوى عبر قوتين كبيرتين تنافساها في الشرق والغرب. الناتو هو القوة التقليدية لمواجهة روسيا في أوروبا، والصين هي القوة الجديدة التي يحلم ترامب (دون خبرة) بالتودد إليها على أمل استدراجها بعيدا عن أي تحالف محتمل قد يجمعها مع روسيا لاحقا.

إدارة ترامب تبدو غير تقليدية، لكنها تحب إدارة صراعاتها بأساليب تقليدية. عقلية الإدارة مبنية على أنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد الخروج من عزلتها التي وجدت نفسها فيها بعد حكم إدارة أوباما، فعليها تجنب فتح أكثر من جبهة في وقت واحد. إستراتيجية التعامل مع روسيا والصين والناتو هي نفس الإستراتيجية في التعامل مع دول الخليج.

خلال حملته الانتخابية كرر ترامب نهجا قائما على “إجبار حلفائنا الخليجيين على سداد فاتورة حمايتهم” من إيران. أين هذا النهج اليوم؟

لم يعد له مكان، ببساطة لأن عقلية العسكريين التقليديين في الإدارة لا تقبل الدخول في صراع مع إيران ومع الخليج في نفس الوقت. سياسة العداء مع الجانبين كانت لتخرج الولايات المتحدة تماما من المنطقة.

كما أن التصعيد تجاه روسيا حشد لأوراق الضغط ولدعم الحلفاء في الخارج، فهو حشد للجبهة الداخلية أيضا. صقور العداء لموسكو في الحزبين الديمقراطي والجمهوري صاروا اليوم أكثر تفهما لترامب وإدارته.

النهج التقليدي الـذي يقوده غاريد كوشنر (صهر الرئيس) مع ماكماستر في البيت الأبيض، خصوصا تجاه الروس، همش معسكر ستيف بانون تماما. التقلبات الحادة التي تحدث في مواقف الإدارة الأميركية تجاه السياسة الخارجية ستؤدي إلى تقلبات مقابلة داخلها، وليس العكس.

لا خلاف كبيرا بين الولايات المتحدة وروسيا. الأمر لا يتعدى صخبا لا بد منه قبل مرحلة الحسم.