IMLebanon

في لبنان… جريمة من نوع آخر

وسط أخبار الجرائم اليومية التي يضجّ بها لبنان، والمسلسل الدموي المتنقّل في بلد صار يشبه صورة ولاية تكساس الأميركية في الأفلام الهوليودية، ظهرَت بالأمس جريمة ذو طابع مختلف. لم ينفّذها رجال بهدف السرقة ولم تحصل نتيجة إشكال تخَلّله إطلاق نار فأودى بحياة أحد المارّة عن طريق الخطأ… بل إنّ سيّدةً أقدمت على طعنِ رجلٍ في صدره في منطقة الشويفات ـ التيرو، ليُقال على إثرها إنّها ارتكبَت فِعلتها في محاولةٍ لمنعِ القتيل من الزواج بابنتها القاصر.

أن تكون سيّدةٌ وراء الجريمة والرَجل الضحية المقتولة، ليس بالأمر المألوف، فكونهنّ الأضعفَ جسدياً لطالما تحوّلت النساء إلى ضحايا في غالبية النزاعات مع الرجال، وكم رجلٍ قتَل أقربَ قريباته من أمّ أو أخت أو زوجة أو حبيبة.

وأن تَرتكب امرأة جريمةً لتدافع عن حقوق امرأة أخرى هي ابنتُها، وتصون حقَّها بالحياة والاستمتاع بطفولتها واقعٌ مدوٍّ في بلدٍ لازال يَحمي فيه رجالُ الدين بعباءاتهم وعماماتهم اغتصابَ آلافِ القاصرات وسلبَهنّ براءتهنَّ تحت غطاء «الشرع».

الجميع متواطئ

أصوات الجمعيات النسائية بُحَّت مئات المرّات ولازال إصدار قانون مدني يحدّد عمر الزواج بـ18 عاماً أقلّه حلماً بَعيد المنال في لبنان، بينما تَحكم قوانين الأحوال الشخصية الطائفية أرضَ الواقع وتتيح زواجَ أيّ قاصرة بموافقة ولي أمرها على جميع الأراضي اللبنانية.

فكلّ الطوائف اللبنانية تخالف الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي يصادق عليها لبنان، وتَمنع الزواج تحت سنّ الـ18 سنة. فبالنسبة للطائفة الشيعية المعيار للزواج هو إثبات البلوغ الشرعي، ويُتوقّع بلوغ الأنثى في عمر الـ9 سنوات، أمّا الطائفة السنّية فتُحدّد سنَّ الزواج للأنثى بـ 17عاماً، ولكن تترك كلّ الاحتمالات الأخرى مفتوحة، إذ «بإمكان القاضي أن يأذنَ بزواج القاصرة التي أتمَّت الـ9 سنوات في حال بلوغها وبعد إذن وليّ الأمر». وعند الطوائف المسيحية المختلفة فيمكن الإذن للفتاة بالزواج في سن 14 أو 15 بموافقة الولي، وبإذن من راعي الأبرشية.

ويبقى السؤال: كيف لطفلة غير مؤهلة بعد لقيادة السيارة أن تقود منزلاً وتربّي أولاداً وتتحمّل زوجاً غالباً ما يَكبرها بسنوات كثيرة، «باعَها» إيّاه والدها ليتخلّص من عبء الإنفاق عليها وليسند ظهرَه بصهرٍ يَدفع له بعض المال مقابل أن يَحظى بابنته الصغيرة بـ»الحلال»!

بالأرقام

لبنان لا يُزوّج القاصرين والقاصرات اللبنانيين فقط، بل كما تشكّل قبرص وجهةً للبنانيين الراغبين بالزواج المدني، باتت أرضُنا ملاذاً لسوريين وفلسطينيين رأوا بتزويج بناتهم القاصرات فكرةً سديدة تُريحهم من الإنفاق عليهنّ وتتيح لهم استغلالهنّ.

فمخيّمات اللاجئين السوريين في لبنان تَضجّ بقصصِ زواج الصغيرات، وقد أظهرَت دراسة حديثة أعدَّها صندوق الأمم المتّحدة للسكّان والجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع جمعية «سوا» للتنمية ونُفّذت في البقاع الغربي، أنّ ما يَقرب من 24 في المئة من الفتيات اللاجئات اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين 15 و17 عاماً متزوّجات حاليّاً.

ولمّا كانت قوانين أيّ بلد تطبّق على كامل أراضيه وليس فقط على المواطنين، إنّما على اللاجئين أيضاً، فإنّ إصدار قانون لبناني يَمنع الزواج لِما دون الـ18 عاماً يوقِف تلقائياً هذه الممارسات المدمّرة للطفولة.

إهمال

يَغضّ لبنان الطرفَ عن تشريع قوانين تتلاءَم مع التزاماته الدولية. فلا يجرؤ الدُمى في السياسة على مخالفة رغبات آلهة الطوائف ويتّقون شرَّ مجابهتِم ليحظوا بدعمهم في بلد يَحكمه التعصّب المذهبي وتُدار رؤوس أبنائه طائفياً.

وتفوز رغبة رؤساء الطوائف على الاتفاقات الدولية والقوانين وينتشر اغتصاب الأولاد بغطاء «الزواج»، علماً أنّ كلّ علاقة يقوم بها راشد مع قاصر تُعتبَر اغتصاباً، بحسب القوانين والاتفاقات الدولية، حتّى في حال موافقة الفتاة الصغيرة على الزواج.

قوانين مريبة

لطالما سخّرَت المجتمعات الذكورية القانونَ لحماية الرجال الذين وضَعوه، فـ»حجّة الأقوى هي دائماً الأفضل». هو حاكمُ هذا المجتمع الأبَوي البطريركي ويُفصّل شروطَ اللعبة على قياس مصالحه وأهوائه. لغاية العام 2011 أي منذ 6 سنوات فقط كان القانون اللبناني لا يزال يَحمي كلَّ من تسوّل له نفسه قتلَ أختِه أو أمّه أو ابنتِه أو زوجته تحت غطاء الدفاع عن شرفه، وكأنّه إله يحقّ له أن يدين النساء من أهل بيته ويصدرَ بحقّهنّ أحكاماً محلّية، وكأنّ أرواحهنّ وأجسادهنّ ملكاً له.

ولازالت جرائم الشرف تهزّ العديد من المناطق اللبنانية، ويتسلّح فاعلوها من الذكور الأوغاد «بالواسطة» ليَحصلوا على أسباب تخفيفية، فتُسخَّر لهم المادة 252 من قانون العقوبات لتقدّمَ عذراً لـ»فاعل جريمة أقدمَ عليها بثورة غضب شديد ناتجٍ عن عمل غيرِ محِقّ وعلى جانب من الخطورة أتاه الجاني!».

هذا تحديداً ما حصَل في قضية المغدورة على يد زوجها منال العاصي حين قرّر القضاءُ اللبناني إطلاقَ سراح الجاني بعد 45 شهراً أمضاها في السجن فقط، لولا حملة المجتمع المدني والنسوي التي ضَغطت لتمييز الحكم. وبالتالي نلحَظ أنّ منحَ الأسبابِ التخفيفية لفاعل «جريمة الشرف» أخرَجه المشرّعون من الباب بإلغاء المادة 262 ليعيدوا إدخاله من الشبّاك باستخدام المادة 252!

وبالعودة إلى جريمة الشويفات وإلى المرأة التي يُقال إنّها قتَلت رَجلاً لأنّها رَفضت أن يتزوّج بابنتَها القاصر، نتساءل: كيف ستَحكم القوانين والعقلية الذكورية بهذه الجريمة ذات الطابع النسوي، وهي التي لطالما شجّعت الرجل على إنهاء حياة أيّ سيّدة من قريباته دفاعاً عن شرفه الوهمي، وتزويجِ أيٍّ من بناته بناءً لرغباته. ولمّا كان شعور الرجل بالعار يبرّر قتلَه امرأةً قريبة، فهل ما يُبرّر للنساء ارتكابَ جريمة بناءً على ما تَعتبره القوانين والأعراف الدولية اغتصاباً لهنّ؟