IMLebanon

عندما قتلتُ أبي

كتب جوزف طوق في “الجمهورية”:

ما تِسألوني، وما تِسألو فرويد… لأن لا أحد يعلم لماذا لم أقتل والدي عندما كان عمري أربعطعش، على رغم أنني كنتُ أملك كلّ المقوّمات الاجتماعية والجغرافية والنفسية، التي يمكن أن تمهّد لجريمة كهذه، وربّما أعظم منها بكثير.

عندما كان عمري أربعطعش، كنتُ قد تخرّجتُ طازة من الحرب الأهلية بدرجة إمتياز، بعدما خسرتُ طفولتي في أقبية الملاجئ وحرقتُ براءتها وبلاستيك ألعابها الملوّنة في إنفجارات المعارك… عندما كان عمري أربعطعش، كنتُ أشعر بأنني محمَّل بما طاب لعِلم النفس من أمراض واضطرابات وتعقيدات، كنتُ أشعر بأنّني بيل غيتس العقد النفسية، ولا يمكن لأحد أن يقارعني على كلّ البشاعة التي كانت تدور في رأسي، وأنا شِبه واثق من أنّ جيل السبعينات والثمانينات يشاطرونني الرأيَ أو يمكن المرض، لأنّ الطفولات المخطّطة بالرصاص الحرّاق تُشبه كلّ شيء إلّا البراءة، وكلّها مجهَّزة بسلاسل عقَد نفسية.

صراحة، لا يهمّ كثيراً الإجابة على هذا السؤال، لأنّ ما تمَّ ارتكابه بطفولتنا ومراهقتنا وأحلامنا، يتفوّق بالفظاعة على أيّ جريمة قديمة أو معاصرة، وحتى إنْ كانت جريمة المراهق علي محمد يونس الذي أقدمَ صباح أمس على قتل أبيه وأجهز بعده على بعض الجيران والمارّة.

وهنا بالتحديد بيت القصيد، لأنّنا أصبحنا مجتمعاً لبنانياً يسير على أرصفة الأيام مرتدياً سترةً واقية من كلّ البشاعة والدماء والموت والأوجاع، يتغَندر غيرَ آبهٍ حتى وإنْ أصبحت الدماء السائلة على السلالم موجاً وأعاصير.

لماذا قد أهتمُّ بمعرفة سببِ عدم قتلي والدي، طالما إنّ شعباً بأمُّو، وأبُو الذي لم يُقتَلْ بَعد، لم يكترث لخبر قتلِ شابّ لبناني لأبيه بدمٍ بارد، فلم نشهد بعد انتشار الخبر أيَّ مظاهرةٍ أو حملةِ تنديد على مواقع التواصل الاجتماعي أو في الشوارع ونشرات الأخبار… خبرٌ بهذه الفظاعة والدلالات الخطيرة مرَّ مرورَ الكرام، مرَّ كشربةِ ماء إعلامية وشعبية، واستمرّت الحياة واشتعلت فحمات الأراغيل، وبقيَت صفّارة الإنذار صامتة حتى يتسنّى لنا سماع التهويل العنصري.

عندما يَقتل مصريٌّ شخصاً لبنانياً، أو عندما يغتصب شابٌّ سوري فتاةً لبنانية، يُصاب الشعب اللبناني بإسهال جماعي مصحوبٍ بغثيان وتقيُّؤ عنصري تخجَل منه جماعة الـ”كو كلوكس كلان” في عزّ عطائها… وإذا فشَخ مسيحيّ فوق سياج أرض الجامع، أو اعترَض مسلِم على تمثال للسيّدة العذراء، نتسابق بكلّ وساختنا المذهبية والطائفية لإشعالِ النار تحت بريستو الحرب الأهلية… لكنْ أنْ يقتلَ مراهقٌ لا يتعدّى عمرُه الـ14 عاماً والدَه أمام أعينِ الناس وبكلّ وقاحة، فهذا بالنسبة للشعب اللبناني لا يستوجب أيَّ استنكار جماعيّ وشعبي، ولا حاجةً للتظاهر من أجله، وليس من الضروري حتى التغريد أو التعليق عليه على مواقع التواصل الاجتماعي، لأنّ المشكلة فقط إجتماعية وعائلية، وليس فيها أيُّ بهارات طائفية وعنصرية.

المشكلة الحقيقية ليست في جيل الحرب المريض، ولا حتى في أولاده المريضين أكثر منه. ولا حتى المشكلة في قضية قتلِ ولدٍ لأبيه، لأنه يمكن أن يكونَ لها مسبّباتٌ مرَضية واجتماعية وعاطفية كثيرة تُفسّرها… لكنّ الكارثة الفعلية هي في مدى تدنّي درجةِ حرارة مشاعرنا الوطنية، وفي مدى تخلّفِنا الاجتماعي وفي قلّة خوفِنا على الوعي الجماعي، وعدم اكتراثِنا لمستقبل أولادنا وصحّتِهم النفسية طالما إنّها تدور في فلك الفِكر الميليشيوي والحزبي والطائفي، لأنّها هناك ستجدُ حتماً سطلاً تستفرغُ فيه تخلّفَها وكراهيتَها.

وفي المرّة المقبلة عمُّو، إذا أردتَ ارتكابَ جريمة عائلية تعمل خضّةً أكبرَ بالبلد، إمّا اختار أن يكون أمّك وأبوك من ديانتين مختلفتين، أو تناولْ أوّلَ جارٍ من مذهب مختلف واهجُمْ عليه بشوكةٍ أو ملعقة من دون الحاجة لسكّين، وستحلبُ عندها بقرةَ الوعيِ الجماعي اللبناني ولن تجدَ من يتجرّأ على أن يَلبط بعدها السطل.