IMLebanon

المصارف المركزية توسّع مهماتها لتحفيز الإقتصاد

كتب بروفسور جاسم عجاقة في “الجمهورية”:

تغيّر دور السياسة النقدية مع الوقت حيث تحّولت من أداة تقنية بحتّة لتُصبح أداة أساسية في ثبات الإقتصاد. وتبقى خيارات السياسات النقدية عاملا أساسيا في ردع الأزمات النقدية، المالية وحتّى الإقتصادية التي قد تعصف بالبلد. من هنا يظهر المصرف المركزي كقوّة ضاربة لا مجال لتسييسها.

على مرّ السنين تغيّرت أدوار المصارف المركزية تحت تأثير عوامل عدّة على رأسها الإطار المالي والإقتصادي العالمي كما وتطوّر الهندسات المالية المُستخدمة في الأسواق.

وتحوّل دور المصرف المركزي من أداة تقنية بسيطة هدفها تنظيم، مراقبة وتمويل العمل المصرفي ليُصبح أداة أساسية في الثبات الإقتصادي. وبصرف النظر عن الأهداف المُعلنة للسياسات النقدية لدعم الدورة الإقتصادية، يرى الإقتصاديون أن السياسة النقدية لها دور أساسي في دعم الثقة أو إضعافها في الإقتصاد والنظام المصرفي.

لا تؤثّر السياسة النقدية مباشرة إلا على الشق القصير الأمد من منحنى العائد (Yield Curve) وذلك من خلال تعديل كلفة السيولة. أما باقي المُنحنى فإن التأثير يأتي من خلال الأثار الناجمة عن السياسة ومن خلال عوامل مالية أخرى (سعر الصرف، الأسهم..). وبالتالي فإن فعّالية هذه السياسة تعتمد بشكل رئيسي على آلية التأثير (Transmission Mechanism).

قنوات التأثير للسياسة النقدية

إذا أخذنا بالإعتبار أن السياسة النقدية تؤثّر على سعر الفائدة وعلى توقعات اللاعبين الإقتصاديين، فإن النظرية الإقتصادية تُميّز بين ثلاث قنوات للتأثير على منحنى العائد على الأمد الطويل:

أولًا – القناة التقليدية لسعر الفائدة: هذه القناة هي القناة الرئيسية التي تستخدمها النظريات الماكرو-إقتصادية حيث أن الخيارات النقدية تؤثّر على سعر الفائدة أو على مُجمل أسعار الفائدة (range of interest rates) وبالتالي على مُجمل القرارات المُتعلقة بالطلب والعرض على مُختلف أسواق السلع والخدمات.
عمليًا، تداعيات السياسة النقدية هي مباشرة، ملموسة وسريعة على العمليات على الأمد القصير منها على العمليات الأمد البعيد.

ففي حال كان هناك إنخفاض في أسعار الفائدة، فإن التداعيات الطبيعية هي كالتالي:

(أ‌) – التأثير ينسحب على كل العمليات على الأمد القصير حيث تقلّ كلفة الإقتراض.

(ب‌) – تؤدّي إلى إلى زيادة انحدار منحنى العائد ويزيد من ربحية المصارف (التي لديها موارد قصيرة ووظائف طويلة).

(ت‌) – تؤدّي إلى إنخفاض أسعار الفائدة على الأمد البعيد كردّة فعل على توقعات بإنخفاض دائم لأسعار الفائدة مما يُقلّل من كلفة رأس المال على الأمد الطويل.

كل هذا يدفع إلى تحفيز إستثمارات الشركات وطلب الأسر على السلع والبضائع الطويلة العمر خصوصًا العقارات منها.

نظريًا القناة التقليدية لسعر الفائدة تسلّط الضوء على سعر الفائدة الحقيقي على الأمد الطويل بدلًا من سعر الفائدة الأسمي على الأمد القصير. وهذا الأخير هو الذي يتأثر الأكثر بتعديل سعر الفائدة من قبل المصرف المركزي.

والعلاقة بين سعر الفائدة الحقيقي وسعر الفائدة الأسمي يُمكن تبريرها بقساوة الأسعار (النموذج الكينيزي)، أو بعقلانية التوقعات (النموذج النيوكلاسيكي) التي تدفع إلى رؤية الفائدة على الأمد الطويل كمُعدّل لتوقعات الفائدة على الأمد القصير.

الهدف الأساسي لأسعار الفائدة الحقيقية تكمن بإثبات أن السياسة النقدية تُعطي نفس الفعالية حتى ولو كانت الفائدة الأسمية ضئيلة أو توازي صفر. في هذه الحالة يخلق التحفيز النقدي الذي يتمثّل بضخ كبير للمال، توقعات بإرتفاع الأسعار ويؤدّي إلى خفض سعر الفائدة الحقيقي وبالتالي تحفيز الإقتصاد.

إنتقادات عدة تمّ إطلاقها في إتجاه القناة التقليدية لسعر الفائدة وأهمها: (1) إرتفاع التضخم في حال لم تكن توقعات اللاعبين الإقتصاديين مؤاتية، (2) إرتفاع أسعار الفائدة على الأمد البعيد نتيجة إرتفاع الإنفاق العام الذي يؤدّي إلى إرتفاع إصدار سندات خزينة، و(3) إحتمال تأخر ردة فعل السياسة النقدية في خفض الفائدة قد تؤدي إلى إرتفاعات قوية للتضخم.

ثانيًا – قناة أسعار الأصول: هذه القناة تركّز على تداعيات السياسة النقدية على أسعار الأصول وعلى عائداتها (مثل العملات الأجنبية، الأسهم، العقارات… بإستثناء السندات). ويُنظر إلى السياسة النقدية من وجهة نظر تخصيص الثروة التي لا تقتصر، كما في النهج التقليدي، على اختيار «السيولة مقابل السندات».

على هذا الصعيد يتمّ البحث عن أصول في مقابل السندات:

(أ‌) – العملات: حيث أنه وفي إقتصادات مفتوحة وفي ظل سعر صرف عملة حرّ، يؤدي التخفيف النقدي إلى انخفاض قيمة العملة وبالتالي تحفيز الصادرات ومعها تنخفض أسعار السلع المحلية بالنسبة لأسعار السلع الأجنبية.

(ب‌) – الأسهم: تأثير السياسة النقدية على سوق الأسهم ممُكن أن يكون بطريقتين (1) من خلال تأثير الثروة التي تؤثر على استهلاك الأسر أو من خلال التأثير على إستثمار الشركات (نظرية «توبين»).

(ت‌) – العقارات: على مثال سوق الأسهم، تؤثّر السياسة النقدية على أسعار العقارات والإستثمار في العقارات وذلك طبقًا لنظرية «توبين». وعلى الرغم من أهمية أسعار العقارات، تمتنع المصارف المركزية عن إدخالها في أهدافهم في السياسة النقدية المُتبعة بإستثناء مصرف لبنان الذي تميّز بدعم للقطاع العقاري من خلال رزم تحفيزية للحفاظ على أسعار مقبولة تمنع إنهيار هذا القطاع وبالتالي خلق فقاعات قد تطال المصارف التجارية.

ثالثًا – قناة القروض: هذه القناة هي التي تسمح بقياس فعالية السياسة النقدية حيث أن عدم التوازن في المعلومات بين المُقرض والمُقترض تلعب دورًا أساسيًا في وجود مشاكل تُصنفها النظرية الإقتصادية في مجموعتين: (1) الانتقاء السلبي حيث أن عدم وجود معلومات كاملة عن شروط الصرف يؤدي أحد الطرفين للدخول أو الانسحاب من السوق. و(2) المخاطر الأخلاقية حيث أن طرفا واحدا، في معاملة ما، يغيّر سلوكه بطريقة مكلفة أو مخفية للطرف الآخر.

وقناة القروض تنقسم إلى قسمين: الأول قروض القطاع المصرفي والذي هو عبارة عن تمويل العملاء الذين لا يمتلكون إمكانية الإقتراض من الأسواق المالية، والثاني عبر الأصول حيث أن السياسة النقدية تؤثّر على كرة القروض بتغيير الوضع الصافي للمقترضين.

مؤشر الأوضاع النقدية

إبتداءً من سبعينات القرن الماضي، أخذت النظرية الإقتصادية ببحث مُعمّق لسلوك المصارف المركزية. وتركّزت الأبحاث حول سؤال جوهري هو: هل يجب أن تخضع السياسة النقدية لقواعد مُحدّدة أم يجب تركها لحكم القيمين عليها (rules versus discretion)؟

القواعد النقدية تطرح مُشكلة فعّالية الخيارات التي تقوم بها المصارف المركزية. وبحسب نظرية الألعاب (Game Theory)، فإن الفعّالية تفرض على السياسة النقدية أن تكون لها مصداقية تستند الى قواعد تُحدّد بحسب تغيرات الإطار الإقتصادي.

وتُحدّد النظرية الإقتصادية نوعين من القواعد:

  • قواعد أوتوماتيكية مثل نمو ثابت للكتلة النقدية (نظرية فريدمان) بغض النظر عن الوضع الإقتصادي مما يؤثر على الإنتاجية.
  • قواعد مع أثر رجعي (Retroactive) حيت تقوم المصارف المركزية بتغيير سياستها النقدية بحسب الوضع الإقتصادي (نظرية تايلور).

أثبتت الأزمة المالية في العام 2008 ضعف النظرية الإقتصادية في تحديد ما يتوجّب على السياسة النقدية القيام به لتحفيز النمو الإقتصادي. وهذا الأمر دفع بالمصارف المركزية في الدول المُتطورة إلى إعتماد طرق هي في الأساس ممنوعة في النظرية الإقتصادية وعلى رأسها التسييل الكمّي (Quantitative Easing).

فعجز القنوات التقليدية الثلاث الآنفة الذكر عن تحفيز النمو الإقتصادي وتداعي مالية الدول التي طالتها الأزمة، فرض إستخدام طرق جديدة مثل التسييل الكمّي ولكن أيضًا إعتماد معايير إسترشادية بهدف التواصل مع الأسواق.

مصرف لبنان

الأزمات التي عصفت بلبنان على الأصعدة السياسية، الإقتصادية، المالية والأمنية دفعت بحاكم مصرف لبنان إلى إتخاذ إجراءات غير إعتيادية على مثال ما قامت به المصارف المركزية في الدول المُتطوّرة لكن بإتباع أساليب مُختلفة دفعت بالسلطات المالية العالمية إلى الإشادة بأداء رياض سلامة ومصرف لبنان.

فحاكم مصرف لبنان الذي يتبع القناة التقليدية لسعر الفائدة وقناة القروض، واجه مُعطيات مالية جديدة تمثّلت بعجز مُدقع للدولة على الصعيد المالي منعها من القيام بأية إجراءات لتحفيز النمو. لكن الأخطر هو أن وضع الدولة المالي أصبح يُشكّل خطرًا على القطاع المصرفي، الليرة اللبنانية وعلى الإقتصاد عامة.

وعلى الرغم من قيام مصرف لبنان بإحترام القواعد النقدية الموضوعة، لم تكف هذه القواعد لردع الخطر مما دفع رياض سلامة الى القيام بما يُسمّى «هندسات مالية» سمحت بتحقيق الأهداف المنشودة أي تخفيف المخاطر عن الليرة بالدرجة الأولى، القطاع المصرفي بالدرجة الثانية، المالية العامة بالدرجة الثالثة والإقتصاد اللبناني بالدرجة الرابعة.

هذه العملية التي يُمكن تشبيهها بعملية عسكرية تقوم بها القوات الخاصة في الجيش، أعطت مصرف لبنان لقب «القوّة الضاربة» وجعلت منه مصرفًا رائدًا في خلق تقنيات تحمي العملة والإقتصاد في آن واحد.

يبقى القول أن مصرف لبنان خلق لنفسه دورًا لم يكن بالأساس من المهام الأساسية للمصرف ألا وهو دعم الإقتصاد.

وقد آن الآوان لكي تقوم السلطة السياسية بدورها بتبيت الوضع السياسي ومحاربة الفساد ولجم العجز في الموازنة لكي يتمكّن مصرف لبنان من وضع خطّة تمويل واضحة للإقتصاد اللبناني لا تكون مبنية إلا على معطيات علمية فقط.