IMLebanon

المأساة السورية: مقبرة الأمم المتّحدة

كتبت راغدة درغام في صحيفة “الجمهورية”:

كلام سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة، الديبلوماسي الهادئ فرانسوا دولاتير، إحتجاجاً على المماطلة في مجلس الأمن في إصدار قرار الغوطة الشرقية كان مُصيباً تماماً عندما قال «لنحذَر ألّا تتحوَّل المأساة السوريّة الى مقبرة للأمم المتحدة». هذه ليست أوّل وصمة عار على جبين مجلس الأمن في المسألة السورية – وهو الذي أُفشِل تكراراً بسبب الفيتو الروسي والصينيّ، ثم فضَّل سَحب أياديه نتيجة قرارات سياسية في عواصم غربيّة وشرقيّة على السواء اختبأت وراء شعار محاربة «داعش» وهي تُغمض عيونها عن أكبر مأساة إنسانية في يومنا هذا. عندما اتّخذت الأمم المتحدة قرار التوقّف عن تعداد ضحايا الحرب السورية، أسقطت المنظّمة الدولية نفسها في بوصلة القيادة الأخلاقية. ما حدَث في شهر شباط للعام 2018 يُسجّل انحدار الديبلوماسيّة الى القاع. لقد أزهقت الديبلوماسية أرواح 500 مدني في الغوطة الشرقية، في غضون أسبوع من مفاوضات على مشروع قرار يُطالب بوقف النار من أجل هدنة إنسانية لإيصال المساعدات إلى 400 ألف مدني عالقين في الغوطة الشرقية المحاصرة منذ خمس سنوات ولإجلاء الجرحى. خسِرت روسيا أخلاقياً وسياسياً وديبلوماسياً، وهي تُماطل من أجل إعطاء القوات النظامية السوريّة والقوى الإيرانية في سوريا فرصة الحسم الميداني على أشلاء المدنيّين وكثر منهم من الأطفال. ولمَ لا، يقول البراغماتيّون في موسكو وغيرها، وهم يُحمّلون عبء المسؤولية إلى «جبهة النصرة» وغيرها من «الإرهابيّين» الذين يجب دَحرهم بأيّ ثمن. لمَ لا؟ لأنّ القانون الدولي وضع القوانين للحروب وحرّم الجريمة ضد الإنسانية وجرائم الحرب ضدّ المدنيين. لمَ لا؟ لأنّ دولة كبرى بأهميّة روسيا يجب ألّا ترضى لنفسها أن تقترن هيبتها بهمجيّة ممنهجة كالتي شاهدها العالم أجمَع في الغوطة الشرقية. فموسكو خسرت كثيراً ممّا أنجزته في إطار استعادتها المكانة الدوليّة عبر البوابة السورية. أسبوع الإبادة في الغوطة الشرقية تزعّمته دمشق وطهران بشراكة روسية وأسفَر عن تعرية مزاعم اثنين من «الضامنين» لوقف النار في المناطق الجنوبية لـ«خفض التوتر» – موسكو وطهران. الضامن الثالث الذي يُعرّي نفسه هو تركيا التي استغلَّت انصباب العالم على الغوطة الشرقية لتستكمل حَسمها الميداني عسكرياً في شمال سوريا في عفرين. الضامن المفترض الجديد الذي يحلّ عملياً – حتى لو كان مؤقتاً – مكان الضامنين في عملية أستانة (روسيا وإيران وتركيا) هو مجلس الأمن الذي تبنّى قرار الولادة العسيرة 2401. فإذا استخفَّ بانتهاكات دمشق وحلفائها وتَملَّص من انتهاكات أنقرة للقرار الذي طالب بوَقفٍ فوري لإطلاق النار، ستكون المأساة السورية حقاً مقبرة للأمم المتحدة.

المآخذ عديدة على المبعوث الأممي ستيفان ديماستورا وفريقه، لأنّه بات شريكاً في الديبلوماسية المريبة في شأن سوريا. بالطبع، لا يمكن له أن يكون مستقلاً عن مجلس الأمن مع أنه مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس، وهو ليس أوّل مبعوث دولي في سوريا يفشل في تحقيق الأهداف. المشكلة منذ البداية كانت في اعتقاد الأمانة العامة للأمم المتحدة والمبعوثين الدوليّين أنّ مهمة المبعوث هي إمّا التوفيق بين الدول المتناحرة في مجلس الأمن، أو تَجنّب استفزاز أحدها – وفي الطليعة روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من جهة ثانية.

الواقعية السياسية تشهد على أنّ هذا التفكير في محلّه، وأنّ مهمة المبعوث الخاص هي الديبلوماسية مهما كانت مطاطيّة أو بلا جدوى. هذا في رأي البعض. إنّما لا يجوز للأمم المتّحدة، بالذات الأمين العام ومبعوثه، أن يبدو وكأنّه شاهد على تدهور القيَم الأخلاقيّة والقوانين الدولية، بلا غضب وسخط واحتجاج. فالأولوية يجب ألّا تكون لحسن علاقات المبعوث الأممي مع العواصم على حساب صرخة الضمير وضرورة تَسميته الأمور بأسمائها. نعم، إنّ «داعش» و«النصرة» وغيرها من التنظيمات الإرهابية كان وما زال آفة لا بد من دحرها، لكنّ مهمّة المبعوث الدولي في أساسها هي من أجل العملية السياسيّة في سوريا إنطلاقاً من مبادئ إعلان جنيف، وليس من أجل تحويل قصّة سوريا برمّتها الى حكاية مكافحة الإرهاب.

مأساة الغوطة الشرقية لم تنتهِ بعد. ساعات بعد إصدار مجلس الأمن قراره 2401 ليل الأحد، جدَّدت قوات النظام السوري قصفها وسط كلامٍ عن احتمال استخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة ضدّ المدنيّين. إيران أعلنت أنّ الهدنة التي أجمَع عليها مجلس الأمن «لا تشمل أجزاءً من ضواحي دمشق يُسيطر عليها إرهابيّون». إيران تتحدَّث من دمشق بلغة تفسير قرار لمجلس الأمن وكأنّها تتحدَّث بسيادية من طهران – هكذا وبلا أيّ احتجاج دولي وذلك لأنّ إيران تتذرَّع بأنّها مدعوّة من الحكومة السورية.

هكذا أفلحت إيران وروسيا في إنقاذ النظام في دمشق بتدخّلهما العسكري وتمكّنتا من الاصطفاف معه تحت عنوان «الحكومة السيادية» التي تكافح الإرهاب، وليس كنظامٍ دخل في حرب أهليّة ساهمت فيها طهران وموسكو.

في معركة حلب، دخلت تركيا طرفاً شريكاً مع روسيا ضمن صفقة أردوغانية – بوتينيّة بين الرئيسين اللذين انتقلا فجأة من العداء المتبادل الى شريكين في سوريا. في معركة الغوطة الشرقية، حبَّذت تركيا الانصراف الى معركة عفرين في صفقة حَجب اعتراضها الجدّي على ما يحدث في الغوطة الشرقية.

الجديد هو أنّ قرار مجلس الأمن الأخير طالبَ الجميع بوقف العمليات العسكرية في سوريا لمدّة ثلاثين يوماً، أي أنّه طالبَ الدول «الضامنة» الثلاث التوقّف عن عمليّاتها العسكرية بعدما سحقت بنفسها مزاعمها بأنّها ضامنة لوَقف النار في مناطق أسمَتها مناطق «خفض التوتر». التسوية التي توصَّل إليها المجلس مع روسيا – والتي ضمَنت تصويتها لصالح القرار بعد سلسلة من «الفيتو» الروسية والصينية على مختلف مشاريع القرارات في شأن سوريا، أتَت في عدم تعريف النطاق الجغرافي للهدنة وبدون تحديد موعد محدَّد لبدء الهدنة. هذا يُفسح المجال لتفسيرات متناقضة. والإصرار على لغة «المطالبة» بدلاً من لغة صارمة تأمر بوقف النار أتى تلبية لأحد الشروط الروسية التي استغرَق التّفاوض عليها أسابيع، فيما كانت الغوطة الشرقية تغرق في الدماء. هكذا أزهقت الديبلوماسية أرواح 500 مدني في غضون أسبوع واحد.

سفير السويد أولوف سكوغ ديبلوماسي مخضرم وصبور وعازم، وهو الذي وضعَ يده بيد رئيس مجلس الأمن للشهر الجاري سفير الكويت منصور العتيبي الذي بذَل كلّ جهد لحَشد الإجماع وراء القرار بعزم على تجنّب المواجهة مع روسيا. تحرَّك الاثنان مع بداية هذا الشهر، لكنّ المماطلة حالت دون التوصّل الى اتفاق قبل تفاقم الأوضاع الإنسانية المأسوية. بل إنّ هذه الأوضاع هي التي فرَضت على أعضاء مجلس الأمن الكفّ عن الخضوع لأنماط المماطلة الروسية.

إشترت الديبلوماسيّة المطاطية ما كان في البال من مماطلة ضرورية لروسيا وحلفائها في معركة الغوطة الشرقية. فكما في حلب كذلك في الغوطة، لن يتراجع محور موسكو – دمشق – طهران عن هدف سحق «النصرة» وأمثالها مهما تعاظمت الكلفة السياسية أو الإنسانية.

البابا فرنسيس قال من ساحة القديس بطرس في روما بعد صلاة الأحد إنّ أفكاره تتَّجه إلى سوريا «الشّهيدة»، لافتاً الى أنّ شهر شباط هو من الأكثر عنفاً خلال 7 سنوات من الحرب في سوريا. هيئة العلماء المسلمين اعتصَمَت أمام السفارة الروسية في بيروت احتجاجاً على المجازر التي تُرتكب في الغوطة وأصدرت بياناً واصفة السفارة الروسية بـ«سفارة الإجرام والطغيان، سفارة الدب الروسي صاحب السوابق في قتل ملايين المسلمين في الحرب العالمية الأولى والثانية، وقتل الملايين في أفغانستان والشيشان».

مثل هذه اللغة التصعيديّة تُقلق روسيا التي يتواجَد فيها وحولها عددٌ كبير من المسلمين السنّة، والتي تخشَى أن يتمّ تصويرها كعدوٍّ للسُنّة وصديق للعلويّين وللشيعة نظراً لتحالفها مع إيران ومع النظام في دمشق. صور أطفال الغوطة الشرقية أشلاء ممزّقة دفع الديبلوماسية الروسية للتوقّف عن المماطلة أخيراً، كما دفعها إلى عدم استخدام الفيتو على قرار الهدنة.

الأيام المقبلة تتحدَّى الأمم المتحدة إلى انتشال نفسها من القاع بزخم وبصوت احتجاج عالي النبرة، وبعزمٍ على عدم الخضوع لإملاءات الديبلوماسية المنحرفة. فإذا كان مجلس الأمن نادي الدول المهيمنة عبر حقّ النقض، فإنّ في يد الأمين العام ومبعوثه ما يُسمّى بـ«السلطة الأخلاقية» التي حان وقت ممارستها في الأزمة السورية كي لا تُصبح حقاً مقبرة الأمم المتحدة.