IMLebanon

البلد عَ كفّ “تويتر”

كتب جوزف طوق في صحيفة “الجمهورية”: 

لا أعلم إذا كان طائر «تويتر» الأزرق هو ذكر أو أنثى، يعني لا أعلم إذا كان عصفوراً أو عصفورة، لكنه دائماً يذكّرني بالعصفورة التي كانت تنقل الأخبار إلى كل الناس باستثنائي أنا وتكشف لهم أسراري. وما زلتُ حتى هذه اللحظة لا أعرف شكل تلك العصفورة، ولا أعرف كيف كانت تعرف أخباري ولماذا لم تكن تحدّثني مثلما تحدّث الآخرين.

أذكر جيداً أنّ مرحلةً طويلة من طفولتي امتلأت بالألغاز والحيرة بسبب تلك العصفورة، وعبارة «قالتلي العصفورة»، التي أكرهها بالمناسبة، كانت تشعرني دائماً بأنني غبيّ وعاجز حتى عن التواصل مع عصفورة حقيرة تنقل أسراري وتنشرها. وكنت أعتقد أنّ تلك العصفورة عميلة عند أمي وخالتي وعمتي وجارنا والدكنجي، وكانت أذكى من أن ترتشي بكل ما أضعه لها في الليالي على حافة الشباك، علّها تأتي يوماً وتخبرني ولو سرّاً صغيراً عن كلّ هؤلاء الآخرين… كبرتُ أنا ولم تأتِ العصفورة، لكن هل يا ترى عصفورة أمي وخالاتي هي نفسها عصفورة تويتر؟ هي ذاتها التي تنقل الأخبار وتكشف الأسرار؟

في البداية، اعتقدتُ أنها هي، اكتشفتُ الملعونة أخيراً وبتُّ اتحكّم بها، وإذ، لم يعد «توتير، تويتر» ولم تعد هي عصفورة بل ديناصورة.

كنّا بعلمي نكتب ونُهشتغ ونتواصل ببراءة ونخلّي العصفورة الزرقا تنقل أخبارنا، وفجأة صرنا نفهم وأطلقنا العنان لمعاركنا الوهمية والواقعية من خلف متاريس العصفورة، وأصبحت الحرب على تويتر أشنعَ من الحرب الأهلية.

الفساد والهدر والتعتير في الدولة اللبنانية كله على بعضه لا يقارَن ببشاعة الذي يحصل على السوشل ميديا وخصوصاً على «تويتر». لم نصدّق نحن اللبنانيين أننا وجدنا وسيلة تعبير، حتى قرّفنا التكنولوجيا من بشاعتنا.

كنّا نقول البلد على كفّ عفريت، وكانت الناس تتوهّم من أيّ تحرّك إسرائيلي أو داعشي يؤدّي إلى حرب، ومن فساد السياسيين وحساباتهم التي تهدّد كيان الوطن، أو من جورة تطعج جنط السيارة… لكن تبيّن أنّ أكثرية الموجودين على تويتر لا يهمّهم حروب ولا فساد ولا هدر ولا ديجنكتور الوطنية، ومين فاضي أصلاً يفكّر بأيّ شي تاني غير 10 هاشتاغات على يسار الشاشة، وبالطبع تحت شعار حرية التعبير أو يمكن التعتير.

ناس تتفرّج وتتابع وناس تنغمس وتقاتل في حروب تقود غالبيتها حسابات وهمية ممنهَجة ومدفوعة التكاليف مسبقاً، لا يرتبط فيها شخص أو مجموعة أو حراك. والمخيف أنّ هذه الحسابات، وبقدرة أرقامها فقط، باتت قادرةً على تدمير الترفيه التلفزيوني، والتشويش على السياسة، وتشتيت المجتمع بقوة المال وليس الفكر.

نحن بطبعنا نحبّ التمثّل بكل مَن يمتلك أكثرَ منّا، سواءٌ مالاً أو ثياباً أو سيارات أو منازل أو حتى متابعين، وهنا يكون الفخ منصوباً مسبَقاً ومحضّراً للإيقاع بنا في حروب تجيّش المفحوطين بالأرقام، ويصبح مَن يدفع أكثر هو مَن يملك الحق الحصري بالانتقاد والتصويب والتحريم والتحليل والتجريم والتبريء.

المخيف أنّ الفنّانين والفنّانات والسياسيين والمحطات التلفزيونية باتت تعيش على وقع تويتر، وتويتر يعيش على نبض الدولار وشراء المتابعين وإعادة التغريد والليكات، وذوقنا وسلامتنا رايحين بالدعس ولا مَن يبالي بالرأي العام.

فلا النقد نقداً ولا الرأي رأياً ولا التعبير تعبيراً، وإنما كميّات من الحقد والشتيمة والتجريح. وصدقاً لو كان إبن سينا يستعمل تويتر في لبنان لما تجرّأ على اكتشاف دواء واستطعام عشبة، ولا كان ابن بطوطة سافر إلى أيِّ مكان من كثرة التخوين والتحطيم تحت جناح العصفورة الزرقاء.

رزق الله على أيام عصفورة مجهولة الهوية استعملتها أمي لإغاظتي، والله ينجّينا من عصفورة زرقاء تصطاد ذوقنا وقدرتنا على التواصل بفوهة هاشتاغ.