IMLebanon

إنتخابات 2018: سقوط الأحزاب

كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:

إنه زمن الانتخابات وزمنُ الحملات الإعلامية، حيث إنّ كلّ فريق يَحشد إلى الحدّ الأقصى ويمارس لعبة التجييش بلا سقف، ويثير الغرائزَ بلا ضوابط، ويُغدق الوعود، وهو العارف أنّها صفحة ستُطوى مع إقفال صناديق الاقتراع.

هي اللعبة نفسها يجري تكرارها بلا ملل لدعوة «الجماهير» بغية الاستيلاء على ثقتها، وهنالك من يراهن على ضعف ذاكرتها أو عجزها عن استخلاص دروس الاستحقاقات والوعود والحملات السابقة.

إلّا أنّ ثمّة أشياء جديدة في استحقاق 2018، هنالك القانون الذي يبقى في جوانب كثيرة منه مبهماً ومجهولاً لتبيان حقيقته الكاملة. وليس سرّاً أنّ معظم الأفرقاء يتعاطون مع القانون الجديد بذهنية «قانون الستّين»، كما أنه بات معلوماً أنّ عدداً، لا بل كثيراً من النواب الذين صوّتوا لمصلحة هذا القانون ركضوا عند دنُوِّ موعد الانتخابات إلى الخبراء لاكتشاف القانون الذي أصدروه. كما أنّ هنالك من طرح إدخالَ تعديلات عليه بُعَيد إقراره بساعات. هي حقائق صعبة التصديق، لكنّها الحقيقة.

وفي انتظار الدروس التي ستعطيها نتيجة الاقتراع، ثمّة نتيجة ظهرَت مبكراً وترافقت مع ولادة اللوائح الانتخابية ومفادُها سقوط الأحزاب.

صحيح أن لا وجود فعلياً للأحزاب في لبنان وفق التحديد العِلمي للكلمة، كما نصَّ عليها الفيلسوف موريس دوفيرجي في كتابه الشهير «الأحزاب السياسية»، أو كما هي الأحزاب قائمة في المجتمعات الديموقراطية الغربية حيث المؤسسات الحزبية ونزاع الأفكار والأجنحة وإنتاج الكوادر وتطوير البرامج السياسية وتداوُل السلطة داخل الحزب لتدريب العقول الحزبية على الديموقراطية الصحيحة والتنافس بدلَ الاستسلام لنظرية «القائد الخالد» أو نظرية التوريث المتّبَعة في الأنظمة التوتاليتارية والشمولية، وبالتالي نشر ثقافةِ «نفِّذ ولا تُناقش».

كلّ ذلك صحيح على رغم أنّه ظهرَت في المراحل الماضية، وتحديداً خلال مرحلة الانتخابات البلدية الأخيرة، خطابات سياسية تدعو إلى تجاوزِ البيوت السياسية أو الحالات المناطقية لمصلحة الأحزاب السياسية، وتحديداً لتحالف «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» الذي كان قائماً يومها وتمّ التداول بنسبة 86% في اعتبار أنّها تمثّل الحجمَ الحزبي الفعلي لهذا الثنائي.

وهذه النقطة شكّلت الملاحظة الأولى لسقوط الأحزاب في الانتخابات النيابية الحالية، إذ إنّ اللوائح الحزبية تسابَقت على استمالة الشخصيات المناطقية لضمِّها إلى لوائحها، فإذا كان التمثيل الحزبي هو فعلاً الأوسع على الإطلاق، فلماذا كانت هذه اللوائح تقتصر على حزبيٍّ واحد مقابل عددٍ مِن المرشّحين المناطقيين أو «المستقلّين»؟

أمّا الملاحظة الثانية فكانت غياب البرامج والأفكار السياسية على الرغم من أنّ الانتخابات النيابية من المفترض أن تكون استحقاقاً سياسياً يعطي الشعبُ بموجبه تفويضَه للنواب، وحيث يشكّل المجلس النيابي البنية التحتية الصلبة للنظام السياسي اللبناني للسنوات الأربع المقبلة.

وخلال الانتخابات البلدية الماضية كانت المساحة السياسية أوسع بكثير، فيما بدت العناوين الاجتماعية والحياتية هي الطاغية الآن. وقد يكون لذلك الأمرِ تبريرُه المنطقي، حيث إنّ التقلّبات الحادة في المواقف والمواقع السياسية لعبَت دورَها في منعِ القيادات السياسية والحزبية من استخدام خطابها المتناقض.

فمثلاً حاوَل تيار «المستقبل» استعادةَ خطاب 7 أيار و النزاع مع «حزب الله» والتدخّل السوري في لبنان، بهدف سدِّ هذه الفجوة وشدِّ العصب، ولكنّ الفجوات كبيرة هنا، ذلك أنّ تيار «المستقبل» متمسّك بالشراكة الحكومية مع «حزب الله» ومتفاهم معه في الغرف الجانبية والمغلقة إلى درجة أنّ هذه المسألة شكّلت أحد أبرزِ نقاط الخلاف مع القيادة السعودية. كما أنّ تيار «المستقبل» يقيم شراكةً في السلطة مع الحليف الاستراتيجي لـ»حزب الله».

أمّا خطاب الوزير جبران باسيل حول تطويق الجميع لـ»التيار الوطني الحر» ومحاصرتِه، وهو ما كان يشكّل سابقاً أساسَ الحملات الانتخابية، فتدحضُه التحالفات داخل اللوائح، حيث تحالفَ «التيار» مع جميع القوى السياسية من اقصى اليسار إلى أقصى اليمين وفقاً لحاجة الاقتراع التي كان يراها ملائمة له في هذه الدائرة أو تلك. ما يعني أنّ هنالك «تخمة» في التحالفات السياسية، وليس أبداً تطويقاً أو استهدافاً أو عزلاً.

أمّا إعلان رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع عن النجاح الباهر لنواب «القوات» فيناقضه استبدالُ معظمِ هؤلاء في اللوائح الجديدة، فوفق أيِّ معيار حصَل التبديل؟

أمّا الملاحظة الثالثة التي شكّلت إحدى أبرز النقاط السلبية فهي هذا التهافت على ضمّ المتموّلين إلى اللوائح «الحزبية». ويُروى كثيراً من القصص حول «جيش المتموّلين» وهو ما رفعَ مِن درجة الإحباط لدى القاعدة الحزبية. ففي الأحزاب السياسية هنالك التدرّج الداخلي والتأهيل على أساس الكفاية السياسية وهو ما يرعاه عمل المؤسسات الحزبية الداخلية.

أمّا في اللوائح الانتخابية فاختيار المتموّلين هو الطاغي، وكأنّ القيادات الحزبية تقِرّ بأنّها تفتقر إلى الكفايات وأنّ الطريق الأسرع والأسهل للوصول إلى المجلس النيابي هو تكوين ثروةٍ ولو أنّ صاحبَها يفتقر إلى الثقافة السياسية أو النضال السياسي والحزبي، وهو ما يؤدّي إلى إحباطٍ حزبيّ داخلي مِن جهة، وإلى ايجادِ فئةٍ مِن النواب يَرتكز فكرُهاعلى مبدأ الصفقات والتجارة السياسية من جهة ثانية.

وهذا ما يُعتبَر الخطرَ الأكبر للمجلس النيابي المقبل. أي «شراء» المقعد النيابي مرّةً داخل اللائحة النيابية، ومرّةً أخرى مع شراء الأصوات، ووفق منطق التجارة فإنّ المبادلة أو المكسب سيكون في ذهن هؤلاء في العمل النيابي.

كذلك فإنّ اعتماد هذه الأحزاب لاستعادة وجوهٍ خاضت تجربتَها وفشلت فيها، هو تكرارٌ للفشل وإقرارٌ بأنّ المطلوب هو التبَعية وليس الولاء، وشتّان ما بينهما.

والسَقطة الرابعة للّوائح الحزبية هي تناتُش الوجوه المطروحة والتي تكون غالباً من المتموّلين، فبَعد أن يجري إدراج هذا المرشّح مبدئياً على هذه اللائحة الحزبية والترويجُ له بأنّه لطالما كان من أنصار الحزب وحليفاً له ولمبادئه، إذ به ينتقل فجأةً إلى اللائحة الحزبية المقابلة مع حملةٍ حزبية تُصوّره بأنّه حامل مبادئ الحزب الثاني.

وبالتأكيد ليس في المسألة مخالفةٌ قانونية أو انتخابية، لكن ثمّة مخالفة فاضحة للمعايير «العقائدية» الحزبية، فكيف يمكن أن تتبدّل خلالها ساعات «القناعات» السياسية والعقائدية لهذا المرشح أو ذاك. أوَليس الانضمام إلى هذه اللائحة أو تلك من المفترض أن يعتمد على برنامج سياسي ومفهوم واضح، فكيف إذاً يمكن الجمعُ بين تناقضَين خلال ساعات معدودة.

هو غيضٌ مِن فيضِ السقطات التي نعيشها في انتخاباتٍ من المفترض أن تكون للمحاسبة السياسية قبل منحِ تفويضٍ جديد للسنوات الأربع المقبلة.

ومعه، لا بدّ من العودة تسعَ سنوات إلى الوراء واستذكارِ الوعود الكثيرة التي أغدِقت والشعاراتِ السياسية الرنّانة التي ألهبَت الصدور والاتّهاماتِ والوعودِ بالمحاسبة والتي لم نرَ منها شيئاً، لا بل على العكس.

في هذه الانتخابات يُمنَع على رئيس البلدية أن يترشح إلّا إذا تقدَّم باستقالته قبل ستة أشهر، منعاً لاستغلال نفوذِه وتوظيفه لمصلحة حملته الانتخابية، وهذا منطق صحيح في دولة كلبنان. لكن يحقّ للوزير صاحب القدرة الواسعة والسلطة المفتوحة و»الخدمات» غيرِ المحدّدة أن يرشّح نفسَه وهو على رأس وزارته من دون وجود أيّ عائق قانوني يَحول دون ذلك.