IMLebanon

رجاء القيامة والمصالحة الحقيقية

كتب المطران منير خيرالله في صحيفة “الجمهورية”: 

في أحد قيامة الرب يسوع المسيح من الموت، أحد الفصح، أحد العبور من الخطيئة إلى النعمة، من الظلمة إلى النور، من العبودية إلى الحرية، من الحزن إلى الفرح الإنجيلي الخلاصي، من الموت إلى الحياة، وفي زمن يكثر فيه الكلام على الوفاق والتوافق والمصالحة، يجدر بنا أن نتوقّف عند ما تحمل هذه الكلمات من قيَم وأن نعيد الالتزام بها في حياتنا اليومية.

يجدر بنا أن نعودَ إلى ذواتنا لنقوم بفحص ضمير عميق وبفعل توبة صادق فننقّي ذاكرتنا ونحرّر وجداننا التاريخي من كل أشكال الأحقاد التي صنعتها أخطاء الماضي؛ فنصفح ونطلب المغفرة، ونحقّق معاً المصالحة الحقيقية التي هي شرط للوفاق والتي لا وجود لها من دون صفح وطلب مغفرة. وبين الصفح وطلب المغفرة وثاقٌ لا تنفصل عراه ولا معنى للمصالحة ما لم تكن مشدودةً إليه.

ويجدر بكنيستنا، التي ختمت ليلة عيد مار يوحنا مارون الاحتفالات بالسنة اليوبيلية للشهادة والشهداء وذكرت شهداءها عبر الأجيال، أن تقف اليوم بشجاعة وجرأة وتواضع أمام التاريخ وأمام الضمير وأمام الله، فتصفح عن الإساءات التي ارتُكبت بحقها وبحق أبنائها، وتطلب المغفرة عن الأخطاء التي ارتكبها ويرتكبها أبناؤها بحق إخوانهم في الدين والمواطنة.

تاريخ كنيستنا هو تاريخ قداسة «لأنّ مؤسسها هو ناسك قديس. ففي القداسة بدايتها، وفي القداسة ضمانتها، وفي القداسة استمراريّتها، وبدون قداسة نهايتها»، كما يقول الأب ميشال الحايك.

تاريخها تاريخ قداسة لا سياسة بمعنى التحزّب والفرقة؛ وتاريخها كذلك تاريخ وطني مسؤول عن ديمومة لبنان الوطن الرسالة كما أراده البطريرك الياس الحويك لجميع أبنائه مسيحيين ومسلمين تجمعهم فيه المحبّة والرحمة، هنا السياسة بمعناها الأخلاقي والديني تبدو عملاً مباركاً.

ويجدر بنا أخيراً، في أحد القيامة، أن نجثو أمام المسيح المصلوب الذي حمل صليب خطايانا ومات وقام، وهو قائم وحيّ أبداً بيننا، فنقوم من عثراتنا وننزع عنا حجاب موت الخطيئة ونقدّم له ذواتنا ونحن تائبون ونستعدّ لمواجهة تحدّيات هذا الزمن.

1 – التحدي الأول هو تحدي الصفح وطلب المغفرة

نجثو اليوم أمامك أيها السيد لنصفح ونطلب المغفرة عن كل موروثات الماضي ونتساءل:

هل نستطيع أن نصفح عن إساءاتٍ واضطهادات واحتلالات لا زالت تمارَس في وطننا وفي محيطنا الشرق أوسطي فتقتل وتشرّد وتهجّر؟ هل نجرؤ أن نطلب المغفرة عن ممارسات خاطئة وفاسدة نتحمّل مسؤوليتها في السلطة والإدارة والحياة العامة خصوصاً الاقتصادية والإجتماعية؟

إنها مهمة صعبة.

لكنك علّمتنا، أيها المسيح، أن «نغفر ليغفر لنا أبونا السماوي» (متى 6/14)؛ أن نغفر حتى لمَن لا يطلب المغفرة؛ وأن «نغفر سبعين مرّة سبع مرات» (متى 18/22)! وأن نغفر من صميم القلب، لنستحق أن نكون أبناء أبينا الذي في السماوات!

2 – التحدي الثاني هو تحدي عيش المحبة

نعرف أن لا أحد يستطيع أن يصفح وأن يطلب المغفرة إلّا إذا كان يحبّ، ويحبّ إلى أقصى حدود.

والمحبة، أيها السيد المسيح، كانت وصيتك الجديدة والوحيدة (يوحنا 15/12)، وأصبحت العلامة الفارقة والمميّزة للمسيحيين تلاميذك. وطلبتَ أن نبدأها مع بعضنا: «إذا أحببتم بعضكم بعضاً يعرف العالم أنكم حقاً تلاميذي» (يوحنا 13/35).

لذا فإننا نعد في يوم القيامة بأن نعيش تحدي المحبة التي عشتَها أنت، وهي المحبة التي تعطي ذاتها من دون حساب، بحيث نعمل على أن يفتح الغنيّ عينيه فيرى أخاه الفقير ويفتح له قلبه ويحبه فيلتقيان على المائدة الواحدة، مائدة عرس الحمل. ونعمل على أن لا يكون بيننا أغنياء متخمون وفقراء محرومون، وأن لا يكون حكّام مسلّطون ومواطنون مظلومون.

إنها مهمة صعبة.
لكنك علّمتنا أيها المسيح، أنّ المحبة تبذل ذاتها في سبيل مَن تحب، وتصل إلى أقصى حدودها فترضى بالموت من أجل الحياة. وعلّمتنا أنّ المحبة هي مِن فيض الله تعاش مع إخوتك هؤلاء الصغار الذين سنلتقيهم يوم الدينونة.

3 – التحدي الثالث هو تحدي عيش الشهادة حتى الاستشهاد

تعرف كنيستنا، وهي تسير معك على درب الجلجلة، أنها ستصل إلى الشهادة لك والاستشهاد من أجلك وحباً بك، على مثال المئات بل الآلاف من شهدائنا المعروفين وغير المعروفين وقد احتفلنا بذكراهم ولا نزال ننبش التاريخ بحثاً عن كتابة شهاداتهم.

وتعرف كم كان قيافاً ساذجاً ومخطئاً عندما تنبّأ بأنه «خير للجماعة أن يموت إنسان واحد عن الشعب كله» (يوحنا 18/14)، وفاته أنّ هذا الإنسان هو ملك إسرائيل الذي سيقبل الموت على الصليب ليفتدي شعبه والبشرية كلها حباً بها، وأنّ هذه المحبة التي رضيت بالموت هي أقوى من الموت وأقوى من كل سلطنات الدنيا.

فالاستشهاد هو قمة المحبة التي تضحّي بذاتها وتقبل بالموت لتدخل مع المسيح في عمق سرّ الفداء، وهي تردّد معه: «إغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون» (لوقا 23/34).

ومسيرة الكنيسة مطبوعة، منذ ميلاد يسوع المسيح إنساناً، بشهادة الشهداء، وأوّلهم أطفال بيت لحم واسطفانوس الذي كان يردّد وهم يرجمونه: «يا رب لا تحسب عليهم هذه الخطيئة» (أعمال 7/60)، وآخرهم في فرنسا الأب جاك هامل والضابط أرنو بلترام وكلاهما ينتميان إلى رعية شفيعها مار اسطفانوس.

لذا فإنّ كنيستنا تَعِدُ بأن تتابع مسيرة الشهادة والاستشهاد التي بدأت برهبان مارون الثلاثمئة والخمسين، مروراً بالبطريرك جبرائيل الحجولاوي وصولاً إلى آخر شهيد يدفع اليوم ثمن إيمانه بالمسيح المحبة موتاً من أجل الحياة.

لكنك علّمتنا أيها المسيح أنّ حبة الحنطة إن لم تقع وتمت في الأرض تبقى مفردة وإن ماتت تأتي بثمار كثيرة (يوحنا 12/24). هذا هو عمق سرّ فدائك.
نعم أيها المسيح الإله، إنّ كنيستنا الساجدة لك، ورغم خطايا أبنائها، هي كنيسة القديسين. فهي تتقدّس كل يوم بالروح الحالّ فيها وبنسّاكها وقدّيسيها وشهدائها.

إنها تفتخر بأن تكون كنيسة الصلبوت في متاهات الناسوت لأنها ترافقك في مسيرة آلامك حتى الصليب لتموت معك عن كل الأخطاء الماضية والحاضرة والمستقبلة، مروراً بسبت النور والقبر الفارغ، إلى القيامة، راجيةً أن تقوم معك إلى حياة جديدة ورسالة جديدة تفتح الطريق أمام المصالحة الشاملة والحقيقية بين ابنائها وبين جميع اللبنانيين فيعيدوا معاً بناء لبنان وطناً رسالةً في المحبة والحرية واحترام التعددية.