IMLebanon

ثورة حريات في تونس: الدولة المدنية تنتصر بأغلبية ساحقة

كتب وسام حمدي في صحيفة “العرب”:

في قلب لحظة فارقة تداخلت فيها ثنايا الأزمة السياسية المتشعّبة وصار فيها المسار الحكومي على أقصى يمين المجتمع، انبثقت في تونس بذرة أمل جديدة جاءت لتكسر بكل ما في الكلمة من معنى نمطية اللحظة العبثية عبر وضع تصوّر تشريعي تقدّمي لتنظيم الحقوق والحريات حسم بشكل يكاد يكون نهائيا مسألة هوية الدولة وجعلها تنتصر بأغلبية ساحقة مبنية على طُفيليات دفعت منذ ثماني سنوات عقبت ثورة كانون الثاني 2011 لأسلمة المجتمع وجعل كل قوانينه وتشريعاته دينية.

مئتان وعشرون صفحة تضمنّها تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، كانت كافية لتمنح غالبية التونسيين بمختلف مشاربهم الفكرية والأيديولوجية أملا جديدا في أنه لا يزال على هذه الأرض رغم الصّعاب والمطبّات ما يستحق الحياة وأن هناك متّسعا آخر من الوقت لتمتين مرتكزات الدولة التقدّمية والعصرية التي لا تحتكم سوى لمبادئ حقوق الإنسان الكونية.

بعد أكثر من ثلاثين اجتماعا جداليا عرف خلافات عميقة، توصّل أعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة التي شُكلت بمقتضى أمر رئاسي في 13 آب 2017، عقب خطاب أدلى به الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي اقترح فيه وجوب المضي قدما في ترسيخ الحقوق والحريات الكونية للإنسان عبر إرساء المساواة التامة بين الجنسين في كل المجالات، إلى توافقات ثورية بشأن كل الإصلاحات المرتبطة بالحريات الفردية والمساواة.

وقالت رئيسة اللجنة بشرى بلحاج حميدة إن “التقرير يتضمن الإصلاحات والإجراءات المقترحة المرتبطة بالحريات الفردية والمساواة استنادا إلى مقتضيات دستور البلاد المصادق عليه في العام 2014 والمعايير الدولية لحقوق الإنسان والتوجهات الحديثة في مجال الحريات والمساواة”.

ودعت بلحاج حميدة إلى أن يكون التقرير نقطة انطلاق حوار مجتمعي جاد حول الاقتراحات والأفكار التي أعدتها اللجنة من أجل تواصل دعم الحريات الفردية وتحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين.

التقدم في مسيرة الإصلاح

 نشرت لجنة الحريات الفردية والمساواة في تونس تقريرها المتضمن مقترحات إصلاحية تخص مواضيع حساسة في تونس، داعية خصوصا إلى المساواة في الإرث وإلغاء عقوبة الإعدام. وأثار التقرير الجدل حول نقاط خلافية اختلط فيها الديني بالمجتمعي. وتطرق التقرير إلى المساواة في الإرث وإلى قانون الجنسية وإلغاء عقوبة الإعدام أو التضييق قدر الإمكان في الحالات القصوى. وتضمن دعوة إلى إلغاء التمييز في إثبات النسب بين الأطفال إن كانوا مولودين في إطار الزواج أو خارج إطار الزواج، أي إلغاء مفهوم ابن الزنا، وتحقيق المساواة في الميراث بين الأبناء الشرعيين والطبيعيين، وغير ذلك من القضايا الجدلية التي سيحسم في أمرها التصويت في البرلمان، والتي ستشكل قفزة نوعية في مجال الحقوق والحريات في تونس والعالمين العربي والإسلامي

يتمحور التقرير الذي ارتكز في توطئته على مقاربات قانونية واجتماعية ودينية تلخّصت في منطلقين أساسيين، هما التأكيد على أن “الإنسان يولد حرّا وفق حقيقة راسخة ثبّتها الإسلام” أو عبر الاعتراف بحتمية أن “الدخول إلى الإسلام يكون فرديا ولا يقبل الإيمان بالوراثة أو التقليد”، حول جملة من الثوابت الدافعة إلى ضرورة التقدّم في مسيرة إصلاح تنأى بمسائل جوهرية كالمساواة والحريات الفردية عن تسطيحات تفسير القرآن وذلك عبر الولوج إلى عمق التأويل القائم أساسا على تدبّر المقاصد العقلية تماهيا مع سيرورة المتغيّرات والتطورات الإنسانية الكونية.

احتوى التقرير، الذي تم تقديم نسخة منه للرئيس السبسي قبل المصادقة عليه وتمرير جزء من مشاريع قوانينه على البرلمان، على منطلقات فكرية تأسّست على أنقاض عامل بديهي وهو أن تونس ذات سبق تاريخي في محيطها الجغرافي والحضاري كانت له تداعياته الإيجابية على الديناميكية الأيديولوجية في دول أخرى عبر تضمنه بيانا مفصّلا لتصورات اللجنة وكيفية تنسيقها مع هياكل الدولة أو مختلف الجمعيات والشخصيات الناشطة في المجتمع المدني أو المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.

مقاربة اجتماعية دينية

تضمّن التقرير جملة من المحاور الهامة على غرار المقدمة العامة التي تتضمن مقاربة اجتماعية دينية حسمت في العديد من النقاط الخلافية، علاوة على تخصيص أبواب مفصّلة للحقوق والحريات الفردية ومقترحات مشاريع قوانين تُعنى بها وأخرى خصّصت لمسائل المساواة بتقديم مشاريع قوانين تتعلّق أساسا بالقضاء على التمييز بجميع أشكاله وخاصة ضدّ المرأة وبين الأطفال أو بين الأديان والأعراق.

ولا يكتسب تقرير الحريات والمساواة أهميته من مجرّد غوصه أو تعمّقه في مسائل خلافية كالحريات الجنسية أو الدينية أو السياسية فحسب، بل من خلال تقديمه لمقترحات وتصورات تشريعية عملية كان من أهم ملامحها الحسم في نقاط كونية هامة ومتفق عليها في كل المواثيق الدولية كإلغاء عقوبة الإعدام أو إلغاء تجريم المثلية الجنسية أو الحسم في مسائل منح الجنسية التونسية وآليات سحبها، علاوة على التقدّم باقتراحات قوانين تُعنى بوجوب فرض المساواة التامة بين الجنسين في كل شيء وخاصة في مسألة المواريث التي ظلّت عالقة منذ عقود بسبب القراءات المتعددة والمختلفة للنص القرآني.

ورغم ما رافق دعوة السبسي منذ آب 2017 إلى وجوب المساواة في المواريث من حملات تكفير طالت كل المؤسسات والشخصيات الحقوقية، إلا أن لجنة الحريات الفردية والمساواة تجرّأت وتمرّدت وفق كل الملاحظين على كل الأطروحات السائدة التي تحصر هذه المسألة في قراءات سطحية للنص القرآني وذلك عبر تقديمها مشاريع قوانين عملية ومتطورة تعلّقت بالمساواة في قانون الجنسية وفي العلاقات الأسرية وخاصة بالمساواة التامة في المواريث.

واقترحت اللجنة بشأن مسألة المواريث المثيرة للجدل وطنيا وإقليميا أن يتم التنصيص في التشريعات التونسية على التساوي في الإرث بين الذكر والأنثى وضمّنت في المقابل فصلا كاملا يكون اختياريا ويمكّن صاحب التركة إن أراد العمل بمقتضيات ما يعتبره تطبيقا للشريعة الإسلامية من توزيع ثروته.

وبمجرّد نشر التقرير للرأي العام التونسي، أجمعت جل الهياكل الوطنية والدولية المعنية بحقل حقوق الإنسان على تأكيد أن اللجنة أوفت في مقررات عملها إلى حدّ بعيد بما طُلب منها وبما ناضلت من أجله أجيال تونسية منذ بناء الدولة الوطنية الحديثة عقب الاستقلال في عام 1956 عبر توجه مقترحاتها إلى ثورة حقوقية وتشريعية تتماهى بصفة كبيرة مع مقتضيات وفصول دستور الجمهورية الثانية المصادق عليه في عام 2014.

ويرى الكثير من المراقبين أن تونس تسير على ضوء نتائج التقرير نحو الخروج بصفة نهائية عن مصاف الدول المتأخرة من ناحية الحقوق والحريات خاصة عبر حسمها في مسائل مجتمعية محرجة أو “أخلاقوية” بالنسبة لدول أخرى كإلغاء تجريم المثلية الجنسية أو تجريم التمييز ورفع القيود الدينية على الحقوق المدنية وحماية الحياة الخاصة والحماية الجزائية للمقدسات ولحرية الضمير.

ويكتسب التقرير أهمية مضاعفة لكون إصداره جاء مباشرة بعد أشهر من جدل مجتمعي واسع رافق طرح عدة مسائل منها ما تم تضمينه فعلا ضمن تصورات اللجنة من مقترحات حسمت بصفة نهائية على سبيل المثال إلغاء وجوبية دفع المهر عند الزواج وجعل مسألة الزواج من الناحية التشريعية مدنية صرفا ولا علاقة لها بالمرجعيات الدينية.

كما تم الحسم أيضا، رغم معارضة العديد من التيارات السياسية خاصة منها الإسلامية التي حاولت الدفع منذ ثورة كانون الثاني 2011 إلى أسلمة المجتمع حتى بالقوة، في قضية اللقب العائلي حيث اقترح التقرير تمكين المرأة مثلها مثل الرجل من حق إسناد لقبها لأبنائها اختياريا أي بعد الاتفاق بين الزوجين.

ورغم الإثناء والإطناب في التنويه بمخرجات التقرير المذكور وعلى كل ما تقدّمت به لجنة الحريات والمساواة، فإن نتائج أعمالها لم تخل أيضا من عدة تحفظات وانتقادات تمحورت في مجملها حول خضوع أعضائها إلى منطق إملاءات التوازنات السياسية في البلاد على اعتبار أن تركيبة أعضائها تنحدر من مشارب فكرية مختلفة.

وقد اعتبر هادي يحمد، الكاتب والناشط في المجتمع المدني، أنه على الرغم من أن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة يعتبر خطوة إلى الإمام إلا أنه يبقى دون رغبة التونسيين في مجتمع حر وتعددي حقيقي.

وقال يحمد “رغم أهمية الإنجاز الذي حققته اللجنة إلا أنها لم تكن حاسمة في العديد من الحقوق والحريات التي أصبحت بديهية في المجتمعات الديمقراطية”. وأكّد أن اللجنة خضعت -في ما يتعلّق مثلا بالحريات الجنسية- للتوازنات السياسية في البلاد التي لا علاقة لها بمبادئ الحقوق والحريات الفردية.

من جهته أكّد صلاح الدين الجورشي، عضو لجنة الحريات الفردية والمساواة لـ”العرب”، أن تقديم التقرير بشكله الحالي جاء بعد توافق كبير بين مختلف أعضاء اللجنة رغم اختلاف تركيباتهم الفكرية والمرجعية.

وشدّد الجورشي على أن فحوى التقرير هو عصارة أكثر من ثلاثين اجتماعا عرف الكثير من الجدل والاختلافات في التوجهات والتصورات بين أعضاء اللجنة. وأكد أن النقاش المعمّق والدراسة الجيّدة لتطورات المجتمع التونسي المواكبة للتحولات الدولية في مستوى حقوق الإنسان أفضيا إلى التوافق بشكل نهائي على تقديم النسخة الحالية من التقرير التي اعتبرها خطوة كبيرة إلى الأمام ستجعل تونس في مصاف الدول المتقدمة في كل ما يتعلق بالحقوق والحريات الفردية والمساواة.

وأوضح أن إدارة الخلاف صلب لجنة الحريات الفردية والمساواة كانت متركزة بالأساس على منطلقات ثقافية واجتماعية ودينية، معترفا بالدور الكبير الذي لعبته مكونات المجتمع المدني أو رئاسة الجمهورية رغم عدم تدخلها في مستوى المضامين.

وقال صلاح الدين الجورشي إن التقرير بمثابة منطلقات فعلية لتركيز منظومة تشريعية جديدة تكون مواكبة لتطورات العصر، مؤكّدا أن فحوى التقرير حظي بإجماع وباحترام جل الهيئات والهياكل المعنية بحقوق الإنسان المحلية والدولية رغم وجود بعض التحفظات والنقائص التي يجب تداركها.

وردّا على بعض الأصوات الحقوقية التي استنكرت استناد منطلقات التقرير الفكرية على النص القرآني، قال الجورشي “فلنكن واقعيين، إن الشعب التونسي حامل لثقافة عربية وإسلامية متجذّرة فيه منذ 14 قرنا ولذلك لا يمكن البتة الخوض في مسائل تشريعية دون الرجوع إلى المنطلقات الدينية لكن بقراءات وتأويلات عصرية مواكبة لتطوّر الحياة والإنسان”.

هوية الدولة

لئن حسم التقرير في مسألة هوية الدولة وحصرها في بعدها المدني، فإن الكثير من المراقبين رجّحوا عودة الجدل حول جل النقاط المضمنة فيه خاصة لدى طرح بعض مشاريع القوانين المقترحة على البرلمان وعلى رأسها المساواة بين الجنسين أو كل ما يتعلق بالحقوق والحريات الجنسية.

وتأتي هذه التخوفات كنتيجة لردود فعل سابقة كانت متشنجة ورفضت جل المقترحات المضمنة في التقرير خصوصا بعد أن ألغت تونس منشورا قانونيا سمح للمرأة التونسية المسلمة بالزواج من أجنبي غير مسلم.

وكان موقف المفكر والفيلسوف التونسي يوسف الصديق من كل هذه النقاط الخلافية قد أشعل حملة تكفير جديدة ضده وضد كل دعاة المساواة بين الجنسين في كل الحقوق والواجبات.

مقاربات قانونية واجتماعية ودينية لقضايا جدلية

وبعد صدور التقرير، قال يوسف الصديق لـ”العرب” “رغم أن فحوى التقرير يتطلب جهدا كبيرا ومعمّقا للتوصل في النهاية إلى انطباع نهائي بشأنه، فإن المنحى العام لصيغته يشير بما لا يدع مجالا للشكّ إلى أنه سيكون منطلقا حقيقيا لتركيز مبدأ الدولة المدنية السائرة شيئا فشيئا إلى تطبيق كل قيم الدولة الديمقراطية التي تحترم كل الاختلافات وكل الحقوق والحريات”.

وأكّد الصديق أن الشكل الحالي لصيغة التقرير يدل أيضا على النهضة الفكرية لدى النخب التونسية التي باتت اليوم تتطلع أكثر من أي وقت مضى إلى جعل تونس مرجعا حقوقيا ومنارة عربية وإسلامية في مستوى احترام الحريات والحقوق وخاصة حرية الضمير المضمنة في دستور الجمهورية الثانية.

في المحصلة، رغم اختلاف التقييمات المتعلقة بمضمون تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، يوجد إجماع لدى نخب تونس ومثقفيها على أن مجهود أعضائها الذي انحسر أساسا في تجميع كلّ النصوص التشريعية ذات الصّلة بالحريات الفردية والمساواة هو مجهود تاريخي من شأنه أن يوفّر ممهدات وآليات حقيقية تجعل من تونس ديمقراطية فعلا وتعددية.

وفي مستوى المضامين، يعد تقرير اللجنة أيضا وفق جل الملاحظين انخراطا هاما وغير مسبوق في الخطاب الحقوقي الجدّي المتأصّل في ثوابت حقوق الإنسان القائمة على المساواة الشاملة والفعليّة وعلى الكرامة والاختيار الحرّ.

وهذه الرؤية المنسجمة مع دستور البلاد والالتزامات الدولية جاءت أيضا لتؤسس مرحلة جديدة للحقوق الإنسانية في تونس. فبعد أن نجحت البلاد -رغم عدة مآزق سابقة- في تحقيق مكاسب على مستوى الحقوق والحريات الجماعية فإن الفترة القادمة ستكون بلا شك متمحورة حول الحريات الفردية التي ستفتح الأبواب لتونس لكي تؤسس جمهورية مدنية ديمقراطية تقوم على احترام كرامة الفرد وخصوصيات البعد الحقوقي المتجذّر في التاريخ الإصلاحي المعاصر للبلاد، ليعبر في نهاية المطاف كل التونسيين من فترة الوصاية الدينية إلى الاختيار الحرّ.