IMLebanon

نموذج سنغافورة في محاربة الفساد والإنحطاط

كتبت غريتا صعب في صحيفة “الجمهورية”:

عندما نالت سنغافورة استقلالها، تعهد رئيس الوزراء الجديد «لي كوان يو» بتخليص سنغافورة من مرض الانحطاط والفساد وعندما استقال من منصب رئيس الوزراء في العام ١٩٩٠ كانت سنغافورة قد تحولت من أحد اكثر الدول فسادًا على الارض الى أنظفها.

تفيد منظمة الشفافية الدولية ومؤشر مفاهيم الفساد بأن سنغافورة تحتل حاليا المركز السابع في العالم، وهي اقل فسادًا من استراليا وايسلندا وحتما من الولايات المتحدة الاميركية.

يقول جون فونان، وهو قاضٍ اتحادي في ولاية كاليفورنيا، في كتاب له «الرشاوى: التاريخ الفكري والاخلاقي (١٩٨٤) الجميع يفعل ذلك» ان الفساد لم يقتصر يومًا على جماعة واحدة انما شمل جميع الاعراف والطوائف من الانكليز الى الافارقة ومن اليهود الى البروتستانت والوثنيين ومن الرأسماليين الى الشيوعيين. وكلمة الفساد مشتقة من الكلمة اللاتينية «Corrumpere» والتي يمكن ان تعني رشوة وقد تعني ايضًا تدمير الشيء.

وبالمعنى الشمولي، فإن الفساد يعني الرشوة والمحسوبية والاحتيال والابتزاز وشراء الاصوات وغيرها من انواع الاحتيال. وتشير تقديرات الامم المتحدة الى ان الفساد يضيف عشرة في المائة رسما اضافيا على تكلفة اداء الاعمال في اجزاء كثيرة من العالم ويصيب كل مستوى من مستويات الحكومة، ويربك التنمية الخارجية ويشجع الأرهاب والجريمة. وغالباً ما يندّد القادة الجدد في اعمال اسلافهم الا انهم يتجاوزون ذلك عند توليهم المنصب. على سبيل المثال لا الحصر، من دوڤالبيه في هاييتي الى فوجيموري في البيرو واردوغان في تركيا وغيرهم في دراما التحول السياسي.

وقد تكون ما فعلته سنغافورة ورئيس وزرائها العكس تماما اذ انه لم يكتف بالكلام بل سنّ قوانين جديدة وتشريعات خاصة بمكافحة الفساد واعطى صلاحيات واسعة لمكتب مكافحة الفساد، كذلك رفع مرتبات موظفي الخدمة المدنية وفرض احكام سجن قاسية لمن تخوّل له نفسه الرشوة. ونجاح سنغافورة هو نتيجة فعالة لمكافحة الفساد مع الاعمدة الاساسية الاربعة تحتضنها ارادة سياسية قوية جعلت من سنغافورة مثالًا يحتذى، وقد يكون درسًا نتعلم منه. اما الاعمدة الاربعة فهي: قوانين فعالة، استقلال القضاء، انفاذ فعال وخدمة عامة مستجيبة. لذلك، ومع انماء ثقافة عدم التسامح ضد الفساد اصبحت هذه الفكرة راسخة في سنغافورة وفي طريقة حياتهم.

وتعتمد سنغافورة على اثنين من التشريعات الرئيسية لمكافحة الفساد: قانون منع الفساد «PCA «prevention of corruption act وقانون الفساد والاتجار بالمخدرات وغيرها من الجرائم الخطيرة (CDSA) وهاتان الوحدتان تطبقان على الاشخاص الذين يقدمون او يتلقون الرشاوى في القطاعين العام والخاص على السواء. ويعزّز هذا الوضع استقلالية القضاء، ويوفر له الحماية من التدخل السياسي، ويتبنّى موقعا رادعا بشفافية وموضوعية ويصدر احكامًا صارمة في حق كل من تخول له نفسه شراء خدمة او تنفيذ عملية بواسطة رشوة ويشمل ذلك المرشي والمرتشي. ويضع عبء الاثبات على المتهم ليثبت العكس اي كونه اكتسب امواله قانونيًا بما معناه ان الثروة الغامضة واذا كانت لا تتناسب مع مصادر دخله وهي غير مشروعة يمكن مصادرتها ومعاقبة فاعلها.

هكذا نرى ان سنغافورة اخذت على محمل الجد عملية تنظيف البلاد من الرشوة والفساد ونجحت الى حد بعيد في هذه العملية والامر المهم هنا الارادة السياسية.

تبدو الاقتراحات الدونكيشوطية لمكافحة الفساد في كثير من الاحيان هزيلة او عديمة الجدوى، وقد طال الفساد حتى الامم المتحدة في العام ٢٠١٥ وأقيمت شكوى ضد جون آشي رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة بتهمة اختلاس مليون دولار بالتنسيق مع رجل اعمال صيني. ولا يستبعد وجود فساد في وضعية اميركا في افغانستان ومدى تجاهلها له في العديد من الدول، حيث منافعها تقضي بذلك. على سبيل المثال لا الحصر، ضرب الفساد في افغانستان مؤسسات دولية وهيئات اعتبرناها ابعد من ان يمسّها الفساد، وعلى سبيل المثال الـ FIFA والممارسات الفاسدة والاموال الطائلة التي دفعت كرشاوى.

في كثير من الاحيان يحاول المسؤولون معرفة اين ذهبت الاموال ولا يستطيعون استرداد الا اليسير من الاموال المنهوبة. لذلك يبقى المثال السنغافوري أفضل الامثلة على نجاح بعض الدول في مكافحة واسترداد اموالها مدعّمة بارادة سياسية وقضاء مستقل غير قابلين للجدل.

لا تختلف وضعية لبنان عن هذه الحالة والارادة السياسية والتي ظهرت جديًا في كلام المسؤولين واعدة سيما وان كانت محصّنة بقضاء مستقل وبمؤسسات مخصصة لمكافحة الفساد. واليوم قبل الغد نحن بحاجة الى البدء في عملية الاصلاح ووقف الهدر والنزف ولن يكون ذلك الا اذا بدأنا برأس المؤسسات واعطينا مثالًا صالحًا لذلك. ولا يمكن الاستفادة من مؤتمر سيدر الا اذا مشيناها خطوات ثابتة في اصلاح المالية العامة وتخفيف النسبة المئوية من الموازنة التي تصرف معاشات ومنتفعات.

كل هذا يمكننا فعله اذا ما حققنا ذلك مع اصلاحات بنيوية وايجاد ثقافة في الابلاغ عن ممارسة الفساد لمواجهة الفاسدين، ومزيد من الشفافية في ادارات الدولة والمساءلة على اساس الجدارة لادارة الموارد البشرية في الادارة العامة. وهذه الامور لو نفذت تجعل من الممكن الحد من الفساد.

يبقى القول ان تحديد اتجاه الاصلاحات ليس سوى جزء من المهمة، في حين تكمن الصعوبة الرئيسية في تنفيذها. لذلك يجب على دوائر الدولة التحرك في هذا الاتجاه مصحوبة بثقافة وطنية تشجع على الابلاغ عن حالات الفساد والمساءلة.

من اين لك هذا؟ قد يكون السؤال الأنسب ليتم طرحه على العديد من السياسيين والموظفين والمدراء في الدولة اللبنانية، وإلا فاننا نسير نحو الهاوية بشكل سريع، والأكيد من دون رجعة.