IMLebanon

هل تُصدِر تركيا عُملة جديدة؟

 كتب جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”:

مع إنهيار العملة التركية أمام الدولار الأميركي، أصبحت الخيارات أمام النظام التركي محدودة ومن بينها حذف صفر من العملة، والذي لن يكون الإجراء الأول في تاريخ تركيا، وذلك بهدف خلق صدمة نفسية إيجابية في الأسواق. فهل تعمد الحكومة التركية إلى حذف صفر من عملتها وما هي إحتمالات نجاح هذا الإجراء؟

بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة بين الولايات المُتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي، أخذت العلاقات التركية – الأميركية منحىً جديدًا من خلال تعاون عسكري متين بين الماكينتين العسكريتين التركية والأميركية. وتزامن هذا التحسّن في العلاقات العسكرية مع تردّي في العلاقات التركية – السوفياتية وإندلاع مواجهات بين أكراد تركيا (PKK) والجيش التركي. وفي العام 1980 حدث إنقلاب في تركيا بدعم من أميركا على خلفية التخوّف من صعود التيّارات الإسلامية. هذا الإنقلاب كان له تأثير كبير على العلاقات الأميركية – التركية التي تطوّرت من علاقات عسكرية بحتة إلى علاقة مبنية على منطق جيو إستراتيجي أدّى إلى تموّضع تركيا في صلب السياسة الغربية. وكنتيجة لهذا التطوّر، إستفادت تركيا كثيرًا على الصعيد الإقتصادي حيث تلقّت مساعدات مالية هائلة من قبل الـ OECD.

في أوائل الثمانينات كان الإقتصاد التركي يعيش تحت كابوس تضخّم هائل وصل إلى 120%، لكن المُساعدات التي تلقتها تركيا بعد الإنقلاب ساعدت في خفض هذه النسبة. وإستطاعت تركيا الحفاظ على نسب نمو مقبولة على الرغم من الأحداث التي عصفت بها كحرب العصابات في العام 1984، والأزمة المالية في العام 1994، والأزمة المالية والإقتصادية التي ضربتها في أواخر التسعينات. الوضع الإقتصادي المُتردّي نتيجة التضخّم في خلال هذه الفترة دفع الحكومة التركية في العام 2001 إلى وضع خطّة إصلاحية بأربع نقاط هي: (1) إستقلالية المصرف المركزي التركي، (2) إعادة رسملة عدد من البنوك العامة والخاصة، (3) إقفال المصارف التي كانت على شفير الإفلاس، و(4) إعادة هيكلة عدد من المؤسسات العامة والخاصة.

وعلى الرغم من محدودية هذه الإصلاحات، فقد أدّت إلى وضع أسس سليمة لبناء إقتصاد مالي وإقتصادي مُستقرّ، لكنّها لم تحلّ مُشكلة العمّلة التركية التي عاشت جحيم التضخّم. فقد فقدت الليرة التركية من قيمتها بشكل كبير بين العامين 2002 و2005 حيث هبطت من 1422 إلى 5.1 مليون ليرة تركية لكل دولار أميركي، وأصبح سعر ربطة الخبر بالملايين! هذا الأمر دفع الحكومة في العام 2005 إلى حذف ستة أصفار من العملة التركية وأدّخلت إلى الأسواق عملة جديدة وأرفقتها بإصلاحات إقتصادية أقرّت في العام 2000 أي قبل وصول الـ AKP. وتابعت الحكومات المُتعاقبة تنفيذ هذه الخطّة الإقتصادية مما زاد ثقة المُستثمرين الأجانب وأصبحت قيمة الإستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا توازي 20% من الناتج المحلّي الإجمالي.

العملة الوطنية هي أكثر من وسيلة تبادل في الإقتصاد حيث لا يقتصر دورها على التبادل التجاري فقط، بل تتمتّع أيضًا بأبعاد إستراتيجية كتعزيز الهوية الوطنية وإعطاء اللون السياسي للحكومات. ويتأثر الرأي العام بحسب قوّة العملة الوطنية إذ أن توقعات دائمة بإنخفاض العملة تُثير الرأي العام تجاه السلطة السياسية وتؤدّي إلى خسارتها في الإنتخابات.

وتتأثر قيمة العملة الوطنية بعدد كبير من العوامل منها ما هو إقتصادي (السياسة الإقتصادية للحكومة)، سياسي (سياسة الحكومة الداخلية والخارجية)، نقدي (السياسة النقدية)، مالي (وضع المالية العامّة)، وقانوني (القوانين المرعية الإجراء). ويأتي سوء هذه العوامل ليؤثّر بشكل مباشر على قيمة العملة التي قد تخسر من قيمتها مقابل العملات العالمية مما يؤدّي إلى تداعيات على الصعيد الإجتماعي. أيضًا لهذا الإنخفاض في قيمة العملة تداعيات نفسية على المواطن من ناحية شعوره بالإذلال. وكردّة فعل، يعمد المواطنون إلى شراء العملة الأجنبية عبر التخلّص من العملة الوطنية مما يخلق ضغطًا على هذه الأخيرة وتُصبح السلطة السياسية رهينة الأسواق المالية. لذا يظهر حذف الأصفار من العملة الوطنية كإحدى الوسائل المُتاحة أمام الحكومة (حذف الأصفار هو عمل سياسي بإمتياز) لمنع اختراق العملات الأجنبية، وتهدف إلى تحسين الوضع الإقتصادي ودعم السياسة النقدية.

ومن الأهداف الأخرى لحذف الأصفار من العملة، كسب مصداقية دولية، جذب الإستثمارات الخارجية، السيطرة على سوق القطع، خفض الضغوطات التضخّمية، زيادة الثقة بالنظام السياسي الحاكم، وتعزيز الهوية الوطنية. لكّن فعّالية هذا الإجراء تبقى رهينة عدد من العوامل مثل الإستقرار الإقتصادي (على الصعيد الماكرو)، خفض التضخّم وبالتالي ضبط الأسعار، إستقرار سعر صرف العملة الوطنية، لجم الإنفاق الحكومي، الدعم الشعبي للحكومة في سياستها، والأهمّ الإندماج السلِس في الإقتصاد العالمي. وبالتالي فإن الدوّل التي قامت بحذف أصفار من عملتها من دون تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة ومفهومة من قبل الشعب والأسواق، لم تُعط المفعول المرتقب فحسب، بل أدّت إلى تدهور العملة من جديد بعد فترة وجيزة.

ويُخبرنا التاريخ أنه ومنذ العام 1960، اضطرت الحكومات النامية في 71 حالة إلى إزالة عدد من الأصفار من عملاتها الوطنية. وخلال الخمسين سنة الماضية، قامت 19 دولة بحذف أصفار من عملاتها الوطنية (10 بلدان قامت بذلك مرتين). وتم حذف الأصفار من العملات الوطنية 4 مرات في الأرجنتين، 5 مرات في يوغوسلافيا السابقة، 6 مرات في البرازيل، مرتين في بوليفيا، 3 مرات في أوكرانيا، روسيا، بولندا وبلجيكا، ومرة في تركيا، كوريا، وغانا. وتبقى البرازيل البلد الأوّل في العالم من ناحية إزالة الأصفار حيث أن عدد الأصفار التي قامت بإزالتها من عملتها هي 18 صفرا!

لكن سلبيات حذف الأصفار قد تكون كارثية كتأثير التضخم الناتج عن تدوير الأسعار، تكلفة القائمة (Menu cost)، التأثير النفسي للنقص في الأجور، عودة الأصفار المحذوفة بعد فترة وجيزة، تكاليف إعادة إصدار العملة الجديدة، مشاكل في تحديد الأسعار على الأمد القصير، تدهور العملة وظهور التضخم، فشل المشروع في حالة عدم دعمه من قبل الناس، إنخفاض الصادرات نتيجة لارتفاع قيمة العملة الوطنية…

من هذا الُنطلق، نرى أن حذف صفر من العملة التركية (ليرة تركية = 1.5 د.أ) لن يكون فعالًا إلا إذا إقترن بخطّة إقتصادية واضحة وسياسات مكافحة التضخم وإجراءات تقشفية في الإنفاق العام والانتظام المالي للدولة كما ومحاولة التخلّص من العجز الطويل الأمد في الميزانية. وتواجه تركيا عددا من التحديات التي ستمنعها من القيام بهذه العملية وعلى رأسها العقوبات الأميركية (المُرجّحة للإزدياد) ولكن أيضًا إستحقاق مالي ضخم يتمثّل بحاجة تركيا إلى 210 مليار دولار أميركي في الأشهر العشرة القادمة. هذا الأمر سيجعل من شبه المُستحيل على تركيا تنفيذ عملية حذف الأصفار بنجاح أو حتّى لجم تدهور الليرة التركية مما يعني أن الحلّ الوحيد الباقي أمام السلّطة السياسية هو الإنصياع للمطالب الأميركية.