IMLebanon

خاشقجي: السيناريو والتداعيات (بقلم طوني أبي نجم)

ليس من عاقل في العالم يمكن أن يقتنع بأن جريمة قتل الكاتب جمال خاشقجي في قلب القنصلية السعودية في اسطنبول، تمت بقرار على مستوى متدني في المملكة العربية السعودية، رغم أن أحداً لا يمكنه أن يجزم على أي مستوى تحديداً تم اتخاذ هذا القرار الغبي. لا تكفي عبارات الإدانة والاستنكار لوصف بشاعة الجريمة بحق رجل أعزل وصاحب رأي، وخصوصاً في مقرّ رسمي لسلطات بلاده. ولا شك أن ما حصل سيبقى وصمة سوداء في تاريخ المملكة وأجهزتها، من دون أن ننسى أن تداعيات ما حصل لم ولن تنتهي بسرعة أبداً، ولا أحد يعلم إلى أين يمكن أن تصل هذه التداعيات.

هنا لبّ المشكلة: التداعيات. والتداعيات بكل أسف لم ولن تكون بسبب الجريمة بحد ذاتها، فكل دول العالم شهدت وتشهد جرائم قتل واغتيالات تقوم بها السلطات وعلى أعلى المستويات، إنما التداعيات في قضية قتل جمال الخاشقجي سببها مكان الجريمة وكمّ التسريبات المتعمّدة منذ اللحظة وتحرّك الإعلام العالمي الذي جعل من هذه الجريمة قضيته الأولى في حين يُغفل عن عشرات الجرائم المماثلة وربما الأخطر.

في الولايات المتحدة لا يعرف الأميركيون حتى اليوم من اغتال رئيسهم جون كينيدي. ثمة كلام كثير همساً، وثمة أكثرية مقتنعة بأن أجهزة الاستخبارات الأميركية متورطة في الموضوع لأسباب داخلية متشعبة من دون أن تتضح الحقيقة رسمياً حتى اليوم. وقد يكون حظ القيادة الأميركية كبيراً أنه يوم قررت الـCIA تسميم النجمة العالمية مارلين مونرو التي تنقّلت ما بين أسرّة جون كينيدي وشقيقه وفيدال كاسترو، لم يكن من مواقع تواصل اجتماعي لتتفاعل مع القضية التي خُتمت “بالتي هي أحسن”! كما أن غياب مواقع التواصل الاجتماعي خفّف من النقمة الأميركية الداخلية والدولية على قرار اجتياح العراق تحت ذريعة سخيفة ثبت بطلانها وهي وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ما أدى الى تدميرهذا البلد والى مقتل مئات الآلاف من شعبه.

ويوم اتُخذ القرار بـ”التخلّص” من الأميرة ديانا كان فيلم على طريقة “جايمس بوند” لإتمام عملية “الاغتيال” في شكل حادث سير لم تنتهِ فصول ألغازه حتى اليوم. أما قضية تسميم روسيا للعميل الروسي السابق في بريطانيا سيرغي سكريبال قبل أشهر بغاز مطوّر للأعصاب، فجرت بتقنية عالية وتمّت لفلفتها بعد فترة من شدّ الحبال بين لندن وموسكو.

لن تكفي عشرات الأمثلة العالمية عن اغتيالات جرت باحتراف تام، ولا مئات الاغتيالات في المنطقة العربية كالتي ارتكبها نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا وخارجها، والتي كانت بإخراج سيئ جداً لكن المجتمع الدولي لم ينتفض كما انتفض على جريمة قتل خاشقجي، ولم يعاقب هذا النظام على الأقل لاستعماله الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجّرة لإبادة شعبه.

ربما قد يكون ملائماً أكثر مثلاً الحديث عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعملية أمنية- إجرامية محترفة في وسط بيروت والتي أدّت إلى مقتل ما لا يقل عن الكثيرين معه، ولكن المجتمع الدولي يقبل اليوم باتهام المحكمة الدولية لأشخاص محددين، ولو كانوا على رأس الجهاز الأمني لـ”حزب الله”، من دون اتهام الحزب وقيادته وإيران من خلفه، بعملية اغتيال شخصية بحجم الحريري تطلّبت استعمال كل التقنيات الممكنة. أما في حال جريمة خاشقجي فمنذ اليوم الأول بدا أن ثمة من يصرّ على الإشارة بالبنان إلى ولي عهد السعودية الأمير محمد سلمان، سواء عن حق أو عن خطأ، لأن المطلوب اليوم هو رأس بن سلمان.

مشكلة الرأي العام العربي والعالمي مع جريمة خاشقجي ليست بالتعاطف مع كاتب يُقتل، وكل عام يشهد مقتل العشرات من الكتاب وأصحاب الرأي والفكر حول العالم، وكثر منهم سقطوا بعمليات تصفية قامت بها أنظمة، بل المشكلة تكمن بأن الجريمة تمت من دون سيناريو وإخراج محترفين كما تمّ اغتيال الشهيدين جبران تويني وسمير قصير على سبيل المثال، لأن الخاشقجي لو قُتل بانفجار غامض أو برصاص “مجهول- معلوم” كما السفير الروسي في أنقرة لانتهت قضية مقتله في 24 ساعة. أما السيناريو الأكثر تعقيداً واحترافاً في ما حصل فقد يكون في استدراج وقوع هذه الجريمة بالشكل الذي تمّت به لتحريك الإعلام العالمي بشكل غير مسبوق وتحريض الرأي العام وقادة الدول للتمكن من النيل من الأمير محمد بن سلمان، سيناريو من الواضح أنه تطلّب الكثير الكثير من الأموال والقدرات على التحريك، ما يجعل من السهولة بمكان حصر من يقف وراءها.

رحم الله جمال خاشقجي الذي يسعى البعض إلى جعل مقتله “جريمة القرن”، كما يسعى هذا البعض ربما إلى استغلال هذه الجريمة للضغط بشكل فاضح تمهيداً لتمرير “صفقة القرن”!