IMLebanon

لا… الناخب ليس دائماً على حق!

كتب إياد أبو شقرا في صحيفة “الشرق الأوسط”:

ساعات حرجة عاشتها العاصمة الفرنسية باريس، مع تصاعد الانسداد السياسي، وتلاشي بريق التغيير و«كاريزما» الشخصنة. إنها ساعات حرجة بعد ثلاثة أسابيع من الإخفاق المتفاقم شهدت دخول غلاة التطرّف والفوضوية على خط مطالب شعبية بريئة المنطق وسليمة الظاهر.

لماذا وصلت فرنسا إلى هذا المفترق؟ وأين فشلت الديمقراطية، مفاهيمَ وممارسةً، في تنفيس الاحتقان وإنضاج التسويات؟

في الحقيقة، هناك مبدأ غير مكتوب عند أحزاب السلطة عموماً في الديمقراطيات الغربية العريقة، هو أنه مهما كانت نتيجة الانتخابات، أي انتخابات، لا يجوز توجيه اللوم إلى الناخبين. فالناخب، كحال المشتري «السّمين» في المتاجر الراقية، دائماً على حق!

هذا عند الطبقة السياسية التي ارتضت أصول اللعبة، وارتبطت مؤسساتها الحزبية بعقد اجتماعي – سياسي مصلحي مع الشارع، الذي يستطيع بأصواته أن يهديها السلطة أو يحرمها منها. وفي المقابل، عبر الخبرة الطويلة ومعادلة «التجربة والخطأ» طوّرت الطبقة الحاكمة آليات خاصة بها تؤثر في الشارع وتتلاعب بعواطفه، وتستغل حركييه لمصلحتها.

وهكذا، إذا كان الشارع قادراً يوم الانتخابات الموعود على التأثير في النتيجة، فإن الطبقة السياسية – بيمينها ويسارها، وبكتلها المالية الكبرى ونقاباتها العمالية، وبإعلامها وإعلامها المضاد – تتفاعل وتستثمر وتحشد وتجيّش من هنا ومن هناك… لضمان الوصول إلى النتيجة المرجوة في صناديق الاقتراع. وبالتالي، الجانبان في النهاية مستفيدان: الشارع، لأن النظام الديمقراطي يوفّر له فرصة آمنة للتعبير عمّا يريده… أو ما يظن أنه يريده. والطبقة السياسية، لأنها أتقنت أصول اللعبة ضمن الحدود المقبولة – والآمنة أيضاً – ولذا فأي سياسي محترف، مهما بلغت مرارته من الهزيمة الانتخابية، تجده يلوم أياً كان وأي شيء باستثناء الناخب.

في فرنسا، حيث برهنت «التاريخية» و«الكاريزمية» الفردية غير مرة على أنها أقوى بكثير من المؤسسات، ثمة مشكلة مزمنة مع الديمقراطية الهادئة الراسخة. هنا، في بلد يستعجل «الثورات» ويمجّدها، وبالكاد يعتذر عن أخطائها… توجد أزمة مع واقعية التأني والمهادنة وتقبّل شد الأحزمة وتحمّل مسؤولية الخيارات الخاطئة… ناهيك عن الصبر على الإصلاح التدريجي.

لا أود أن أقسو على الناخب الفرنسي العادي، الذي خذلته رومانسيته السياسية فسلَّم مفاتيح قصر الإليزيه لسياسي شاب طموح بلا حزب وبلا آيديولوجيا. لكن لا بأس من تذكر الكلمات الأشهر للجنرال شارل ديغول باني «الجمهورية الخامسة» عن مزاجية الناخب الفرنسي واستحالة إرضائه، «كيف يمكن حكم بلد فيه 246 صنفاً من الجبنة؟!». والمعروف، أن ديغول، جرّب هذه المزاجية عدة مرات، وكان آخرها «الثورة الطلابية» عام 1968، واستفتاء التنحّي بعدها.

أيضاً، من دون الحاجة إلى القسوة على الناخب الفرنسي، أثبت المُستفتى البريطاني في استفتاء الخروج من أوروبا عام 2016، أنه أيضاً مستعد للقفز إلى المجهول عندما تتجمّع رياح الشعبوية الأنانية والمريضة.

وعلى الرغم من رسوخ الديمقراطية «المؤسساتية» في بريطانيا، بالمقارنة مع «ثورية» فرنسا و«شخصانيتها»، وكذلك تقبّل الطبقة السياسية البريطانية «النَفَس الإصلاحي الطويل» وتفضيله على التغيير السريع، بلغ زعيم بحجم وينستون تشرتشل من الثقة بالنفس ورفض الاستكانة لمزاج الشارع حدّ مخالفة النهج التقليدي في استرضاء الناخب، عندما قال ذات يوم بسخريته الحارقة «حوارٌ لمدة خمس دقائق مع ناخب عادي يشكل أقوى حجة ضد الديمقراطية!».

وراهناً، يُجمع المراقبون على أن بريطانيا تعيش مأزقاً حقيقياً بسبب الغموض الذي تسبب به تصويت البريطانيين لمصلحة الخروج من أوروبا بغياب استراتيجية متماسكة بديلة. بل إن كثرة، حتى من الساسة، يبدون كأنهم يكتشفون مُعطيات جديدة للخروج غابت عنهم في حمأة الصخب الداعي لـ«تحرير» بريطانيا من ربقة بروكسل!

أخيراً، قد تشكّل الولايات المتحدة «منطقة وسطى» بين «الإصلاح» البريطاني الهادئ و«الثورية» الفرنسية العجولة. ولعل الشكل الفيدرالي للبلاد، والتشدد في تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات يقللان من فرص نشوء أزمات مستعصية. ولكن مع هذا، نرى مشكلات صعبة تتوالد اليوم وبسرعة كبيرة.

التغيّر الديموغرافي الملحوظ، وردّ الفعل الشعبوي عليه، من هذه المشكلات الجديدة.

النسيج الديموغرافي الأميركي يتبدّل. الفكر السياسي يتحوّل.

ثمة إعادة تعريف للنخب والمصالح والقواسم المشتركة بين الأميركيين. وهنا أيضاً لا ضمانة لأن الناخب دائماً على حق. لا ضمانة لأن الناخب الأميركي العادي يفهم «السببيّة» – أي السبب والنتيجة – أو مستعد لتقبّل فكرة تعذّر طلب الشيء وعكسه في آن.

مثلاً، لا يمكن – من دون حرب – أن تنافس في الأسواق إذا كانت كلفة إنتاج سلعك أضعافاً مضاعفة لكلفة إنتاج منافسيك. ولا يمكن الإبقاء على شركاتك الصناعية قائمة إذا رفضتَ أن توفر لها فرصاً للمحافظة على مزاياها التنافسية ومنها امتلاك مصانع وتشغيلها في دول ذات عمالة رخيصة. ولا يمكن استنهاض صناعات متقادمة وشبه بائدة، مثل مناجم الفحم الحجري، بينما العالم بأسره يتجه نحو مصادر جديدة مستقبلية للطاقة.

المصالح الانتخابية العابرة قد تفيد مرحلياً، لكنها غير صالحة كاستراتيجية للمستقبل. ومجدّداً، الناخب ليس دائماً على حق!

بعض أسوأ رؤساء الجمهورية في تاريخ أميركا، وفق تقييم كبار الأكاديميين، فازوا بالرئاسة بغالبيات ضخمة، منهم وارين هاردينغ (1921 – 1923)، في حين خسرت انتخابات الرئاسة شخصيات لمعت قبل الانتخابات وبعدها، بينها الرئيس السابق جيمي كارتر، ونائب الرئيس السابق آل غور اللذان حازا جائزة نوبل بعد هزيمتيهما!

ثم إن ريتشارد نيكسون خسر في انتخابات حكام الولايات عن كاليفورنيا عام 1962، بعد خسارته انتخابات الرئاسة الأميركية أمام جون كنيدي عام 1960. وأمام حشد من الإعلاميين تجمّعوا في فندق بيفرلي هيلتون، قال نيكسون بأسى معلناً اعتزاله السياسة: «لن يبقى أمامكم نيكسون لتركلوه بأقدامكم بعد اليوم، والسبب أيها السادة، أن هذا هو مؤتمري الصحافي الأخير!». لكنّ حياة نيكسون السياسية لم تنتهِ هنا. بل عاد ولملم شتات حزبه، وبفضل أصوات الأميركيين فاز بالرئاسة مرتين عامي 1968 و1972 قبل أن تطيحه فضيحة «ووترغيت».

نعم. الناخب ليس دائماً على حق، فما بالك بالفوضوي الذي لا ينتخب أصلاً؟!