IMLebanon

“حزب الله”: الأعراف والدستور

تعيد الأزمة الحكومية في لبنان تسليط المجهر على صلاحية النظام السياسي اللبناني الذي أعاد اتفاق الطائف “إصلاحه” عام 1989. مثّل الاتفاق الشهير، الذي بات من صلب الدستور اللبناني، موازين القوى التي خرج بها اللبنانيون من احترابهم الأهلي على مدى 15 عاما. ولئن تأسست روحية التوازن الداخلي على الزعم المستمر بالتمسك بنظرية “لا غالب ولا مغلوب”، فإن اتفاق الطائف كان نتاج مخاض دموي أنتج في نهايته غالبا ومغلوبا.

مثّل رفض الجنرال ميشال عون  للاتفاق عند ولادته، وموافقة سمير جعجع عليه، واجهة ملتبسة للموقف المسيحي الحقيقي مما انتهت إليه المداولات في المدينة السعودية. بدا أن المسيحيين في وعيهم الجمعي أدركوا هزيمة راكم من حدّتها اعتقال جعجع، المبارك للاتفاق، وزجه في السجن لمدة 11 عاما، واضطرار عون، الرافض للاتفاق، إلى اللجوء إلى فرنسا لمدة 15 عاما. وعلى هذا، تقاطع المسيحيون على التظلم من اتفاق أطاح بما كان يعرف بامتيازاتهم على رأس السلطة منذ الاستقلال.

غير أن الممارسة الحقيقية لاتفاق الطائف لم تعتمد على قوة بنوده القانونية ولا على مفاعيله الإيجابية في إنهاء الحرب الداخلية وإعادة الاستقرار إلى لبنان. تأسس الطائف منذ العمل به على قهرية الواقع السوري في لبنان ووصايته الكاملة على النظام السياسي للبلد. بات للطائف ما يعمل به وما يهمل ذكره، كما بات له رجالاته وموالوه وأجهزته. لم يعرف اللبنانيون الطائف دستورا واضح المواد والبنود، بل أعرافا تتراكم على أعراف، وفق مزاج سلطة الوصاية الدمشقية وأدواتها المحلية.

صادر اتفاق الطائف بعضا من صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي الماروني، ومنحها لمجلس الوزراء الذي يرأسه مسلم سني، مما راكم خطأ، خصوصا لدى الجمهور المسيحي، شعورا بأن الموارنة خسروا نفوذا لصالح السنة. وعلى الرغم من أن صلاحيات مجلس الوزراء لا تعظّم نفوذ رئيسه، الذي يبقى محكوما بإرادة كل الطبقة السياسية، فإن تواكب الطائف مع ظهور رفيق الحريري، رفع من منسوب اللغط، الذي نما داخل الطائفة الشيعية هذه المرة، حول السلطة التي يمتلكها رئيس الحكومة السني في حكم البلد.

مثّل رفيق الحريري ظاهرة استثنائية لم يشهدها السنّة، كما لم يشهدها لبنان قبل ذلك. توزع ولاء السنّة في لبنان منذ الاستقلال على زعامات محلية، ولم يدينوا يوما بولاء واحد لزعيم واحد. كان السنّة ينظرون خلف حدود البلد يستدرجون قوة من الخارج تعوضهم ما اعتبروه ظلما حلّ بهم جراء حشرهم داخل دولة لم يصفقوا لولادتها. فاقم من تلك المظلومية نظام سياسي جعل من المسلمين متعايشين مع سلطة المارونية السياسية وليسوا شركاء داخلها. وعلى هذا جاء رفيق الحريري ليصالح السنّة مع لبنان، حاملا مشروعا لبنانيا عابرا للطوائف، متكئا على حزمة علاقات إقليمية ودولية جعلت منه رجل المرحلة، رجل الطائف بامتياز.

عمل رفيق الحريري تحت سقف الوصاية السورية وبالتحالف مع دمشق. بات رقما صعبا داخل منظومة سياسية بدا أن الشيعية السياسية باتت قاعدتها وأداتها الغليظة. وعلى هذا ترعرع لدى الثنائية الشيعية، المتمثلة في حزب الله وحركة أمل، نزوع نحو تعزيز نفوذها، بالقوة والحيلة، داخل الإدارات اللبنانية، وتوق، لا سيما بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 والحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، إلى إثارة موضوع الدستور وانتهاء صلاحية العمل به، واعتباره متقادماً لا يأخذ بالاعتبار تبدل موازين القوى الداخلية بعد عقود على إبرام اتفاق الطائف.

أزاح اغتيال رفيق الحريري عقبة رئيسية من أمام إجراء انقلاب دستوري باتجاه إعادة تسجيل النفوذ الشيعي داخل التركيبة السياسية الرسمية اللبنانية. ولا شك أن تورط حزب الله مباشرة في عملية الاغتيال، حمل ماء إلى طاحونة من يراقبون حراك حزب الله الاستراتيجي للهيمنة على لبنان ونظامه. والظاهر أن عُرف الترويكا، الذي بات عرفا يحكم لبنان منذ رئاسة إلياس الهراوي للجمهورية اللبنانية عام 1989، أسس لفكرة المثالثة التي لطالما تم التلويح بها لتكون بديلا عن المناصفة التي عززها اتفاق الطائف لاقتسام السلطة بين المسلمين والمسيحيين.

وفيما اشتهر الحريري الأب بمقولته “أوقفنا العدّ”، في معرض تأكيده على المناصفة أيا كان الحجم الديمغرافي للمسيحيين في لبنان، فإن منابر حزب الله لطالما ذكّرت بطرق ملتوية، وأحيانا مباشرة، المسيحيين بتراجع حجمهم الديمغرافي عنه في بداية تشكّل الكيان اللبناني، على نحو يهدد مفهوم المناصفة، وبالتالي يهدد مستقبل الموقع المسيحي داخل النظام السياسي اللبناني.

على أن تمسك الحريرية السياسية بمبدأ المناصفة ينطوي، من جهة، على تمسك مبدئي بالحقوق المسيحية التاريخية داخل تاريخ لبنان كما حاجة لبنان إلى رفع شأن الوجه المسيحي المميز للبلد داخل المحيطين العربي والإسلامي، لكنه، من جهة أخرى، يستبطن اللجوء إلى الحصن المسيحي وامتداداته الدولية المحتملة من أجل حماية لبنان ونظامه من هيمنة شيعية مطلة تنهل ديناميتها من “فائض قوة” استثنائي لم يشهد لبنان له مثيلا من قبل، حتى في فترة الحضور العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي بقي دون تأثير مباشر على المنظومة السياسية اللبنانية الداخلية وتفاصيلها.

 

والمثالثة في لبنان، والتي تعني أن يُحكم البلد وفق أضلاع ثلاثة متساوية من السنة والشيعة والمسيحيين، لا تعتبر كابوسا لأنها تعيد توازنا ما إلى حصة طائفة لبنانية داخل منظومة الطوائف في البلد، بل لأن أعراف المثالثة تهدد المناصفة، وبالتالي تهدد الحصة المسيحية والوجود المسيحي وربما تميز لبنان داخل المشهد الإقليمي العام. لكن الأدهى من ذلك أن المثالثة في السياق الإقليمي الحالي تعني أن إيران باتت وصيّة نهائية من على بعد آلاف الكيلومترات على لبنان، فيما (وعدا الحالة السورية الاستثنائية من عام 1975 وحتى عام 2005) لم يسبق لدول أجنبية أن هيمنت على النظام السياسي اللبناني من خلال طوائفه.

على هذا يكفي النظر إلى موقف حزب الله من مسألة تمثيل “سنة 8 آذار” ليس بصفته موقفا شهما لدعم سنّته ورفد معارضتهم لزعامة سعد الحريري، بل بصفته إعلانا “سلطانيا” يطلق فرمانات توزيع السلطة وفق المزاج الذي يحدده الحاكم الفعلي للبلد. كما أن تدخل حزب الله الشيعي في مسألة تمثيل وزراء للطائفة السنية، يُعدّ سابقة لم ترتكبها إلا سلطات الوصاية السورية السابقة التي مارست ذلك داخل كافة الطوائف.

وعلى هذا أيضا لا يتقدم حزب الله بصفته شريكا يزاحم الآخرين لتحسين شراكة الشيعة في الثروة والسلطة، بل بصفته ممثل الولي الفقيه في لبنان بصفته جزءا من نفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة.

يحتاج حزب الله إلى تحويل سلوكه من طابع الاستثناء وهرطقات الأعراف، إلى نصّ دستوري يحظى بغطاء محلي وإقليمي واعتراف دولي. توقف الحزب عن التلميح بمؤتمر تأسيسي يعيد صياغة دستور جديد، لكنه، ومن خلال ما يجاهر به من نفوذ على رئاسة الجمهورية ومن قدرة أثبتها على شلّ البرلمان، ومن تذكيره بالإمساك بمفاتيح الحكومة وهوية رئيسها، يودّ أن يجعل مما اعتبر دائما عرضيا، قاعدة بنيوية دائمة هي أساس لبنان المستقبل.

يبقى أن حزب الله ينطلق مما يعتقد أنه لحظة إقليمية دولية يعتبرها مواتية لفرض “دولته”، لكنه بالمقابل لا يلحظ أن رفض الحريري وتشدده بالرفض ينطلق أيضا من نفس اللحظة التي يعتبرها خصوم حزب الله مواتية إقليميا ودوليا لرفض “دولة حزب الله”.