IMLebanon

المناطق الآمنة التي تريدها تركيا في سوريا

كتبت رانيا مصطفى في صحيفة “العرب” اللندنية:

بات الهاجس الكردي المتحكم الأول في السياسة التركية في سوريا منذ تدخل التحالف الدولي في المنطقة في عام 2014، واعتماده في سوريا على وحدات حماية الشعب الكردية، العصب الأساسي لقوات سوريا الديمقراطية الكردية- العربية.

تركيا التي دعمت الفصائل العسكرية على كل الأراضي السورية، واحتضنت تشكيلات المعارضة السياسية على أراضيها، اضطرت بسبب هاجسها الأمني تجاه الأكراد إلى أن تقبل باتفاقيات خفض التصعيد، ثم المصالحة والتهجير لمناطق المعارضة في شرقي حلب وفي ريف دمشق والغوطة الشرقية والغوطة الغربية وريف حمص الشمالي والجنوب السوري، مقابل استيلائها على كلّ من جرابلس عفرين وريفها في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون. ووافقت على تسليم روسيا والنظام مناطق شرق السكة في إدلب، بعد الدخول في حلف أستانة مع موسكو وطهران الداعمتين للنظام السوري.

كما عقدت تركيا مع حليفها الروسي اتفاق المنطقة العازلة في إدلب، ويجري الآن استكمال التشاور الروسي – التركي، لإنهاء ملف الفصائل المتعددة في إدلب وإنهاء ملف الجهادية، وفتح الطريقين الدوليين الرئيسيين، دمشق – حلب واللاذقية- حلب، بالتوازي مع مشاورات مستمرة مع الروس والأميركيين، كل على حدة، بشأن إيجاد حلّ يهدّئ المخاوف الأمنية التركية تجاه تواجد عناصر من حزب العمال الكردستاني على حدودها مع سوريا.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب عازم على الانسحاب من سوريا؛ لكنّ صراعات تدور بين مسؤولي وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأميركية، إضافة إلى صراع بين المشرّعين في الكونغرس، ليس حول كيفية ترتيب الوضع بما يضمن المصالح الأميركية في المنطقة، ويبقي الدور الروسي محصورا في حدود سوريا، بل حول ماهية الاستراتيجية الأميركية في المنطقة والعالم ككل.

التصريحات الأميركية الأخيرة المعلنة تقول باستكمال محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وتحجيم إيران، لكن قبل إعلان ترامب قرار الانسحاب نهاية العام الماضي، كانت استراتيجية الولايات المتحدة في سوريا، والتي حملها المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري منذ توليه المنصب، تتضمّن أيضا المضي في الحل السياسي على أساس حكومة انتقالية وفق مسار جنيف، ووعود لحلفائهم في قوات سوريا الديمقراطية بدعم مطلبهم الفيدرالي، ما يعني تحجيما أكبر للدور الروسي الذي يضع كل رهاناته في استعادة نظام الأسد السيطرة على كل سوريا، وبقائه في الحكم.

بالتالي الانسحاب الأميركي، بما يعنيه من سحب 2000 جندي أميركي من سوريا، ونقل القواعد والمعدات بضعة كيلومترات إلى داخل الأراضي العراقية، ليس عملية معقدة عسكريا؛ التعقيد في كيفية ترتيب الوضع السوري، بالشكل الذي يوازن بين مصالح الطرفين الروسي والتركي، مع تحجيم التواجد الإيراني بالمحاصرة الاقتصادية، وبمواصلة الضربات الإسرائيلية في سوريا.

تركيا ما تزال تحشد عسكرها وعتادها، منذ شهرين، لاقتحام شرق الفرات، وإنهاء مشكلة التهديد الكردي؛ وبعد قرار الانسحاب، ثم حديث المنطقة الآمنة، يكثّف المسؤولون الأتراك والأميركيون اتصالاتهم بهذا الشأن، ومن الممكن أن تقدّم تركيا تنازلات للحليف الأميركي خارج سوريا، خاصة أنهما شريكان في حلف شمال الأطلسي، وحجم التبادل التجاري بينهما في ازدياد، حيث تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحماسة عن إمكانية وصوله إلى الرقم 75 مليار دولار سنويا.

وفي نفس الوقت التوافقات الروسية – التركية داخل سوريا تزداد قوة وتقاربا، مع تولي تركيا حل ملفّ إدلب، بما يتعلق بإنهاء الحالة الفصائلية وحل المعضلة الجهادية، باتجاه تجمّع عسكري مطواع، يقبل بالتوافقات النهائية حول الحل السياسي، ويبدو أن فيلق الشام، المدعوم سياسيا من الإخوان المسلمين، هو المرشح للمضي في هذا الدور.

وقد يضع لقاء موسكو المرتقب في الـ23 من الشهر الجاري، بين الرئيس الروسي فلادمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، الخطوط العريضة لتصوّر نهائي روسي- تركي حول ملفات إدلب ومنبج وشرق الفرات والمنطقة الآمنة.

تركيا لن تتخلى أمام روسيا عن شرط حماية حدودها، وأن تكون المنطقة الآمنة بإشراف وتمويل تركي دولي، مع سقوط خيار دخول قوات عربية للفصل بين تركيا والوحدات الكردية، وضعف الطرح المتعلق بأن تتولى المهمّة قوات من البيشمركة السورية المدرّبة لدى مسعود البارزاني في إقليم كردستان العراق. وروسيا تريد السيطرة على كامل سوريا، لذلك تقول بوحدة سوريا، وتسعى لتوافق بين القيادات الكردية مع حكومة دمشق حول دولة مركزية.

وتريد دمشق أن تكون للأكراد إدارة محلية موسعة، وأن تعمل قوات سوريا الديمقراطية تحت إمرة الجيش الرسمي، ويريد الجانب الكردي تعديل دستور 2012، والحصول على إدارة ذاتية، وإن كانت أقل من الفيدرالية، مع الاعتراف بالأكراد، وبحقوقهم الثقافية، وتخصيص موازنة مالية للمنطقة التي تشكل ثلث مساحة سوريا، وتضم 90 بالمئة من الاحتياطي النفطي، ونصف الغاز السوري، وغالبية الإنتاج الزراعي من القطن والحبوب، مقابل الاعتراف بشرعية الرئيس السوري “المنتخب” في 2014، كرئيس لكل سوريا.

انسحاب الولايات المتحدة من سوريا سيضعف الجانب الكردي، وسيجد نفسه مضطرا أكثر للرضوخ إلى شروط النظام، خاصة أن روسيا تريد له هذا الرضوخ أيضا، وأن تنزع منه السلاح، وتدخله تحت إمرة جيش النظام.

لطالما تعثّر على موسكو تمرير الحل الروسي الذي اّتفق عليه الروس والأتراك في سوتشي مطلع العام الماضي، بحضور ممثلي النظام والمعارضة والأمم المتحدة، والذي يقول بلجنة دستورية تقرّ دستورا في ظل حكم الرئيس الأسد، دون تغييرات جوهرية في نظامه. لكن مخرجات سوتشي هي الخيار الوحيد الذي تريده موسكو؛ وهي الآن تريد تمريره بعد قرار تراجع النفوذ الأميركي في سوريا، من بوابة التوافق مع الأتراك.

ستجد موسكو نفسها مضطرة إلى القبول بالشرط التركي، باقتطاع شريط حدودي بعمق 20 ميلا/32 كيلومترا، وطول 460 كيلومترا، داخل الأراضي السورية، وترك بقية شرق الفرات لروسيا والنظام، إذا ما تم التوافق مع الأميركيين حولها بعد الانسحاب، مقابل تسوية مقبولة لوضع إدلب، التي لا تشكل أهمية استراتيجية كبيرة للروس، وما يهمّهم تأمين الحركة التجارية على الطرق الدولية.

ستكتفي تركيا بحصتها من سوريا في جرابلس وعفرين وربما منبج، ونفوذ مشترك مع روسيا في إدلب، وربما تتمكّن، إذا ما تم التوافق على حل سياسي، من فرض بعض المعارضين، الذين تدعمهم، في حكومة دمشق، مقابل حلٍّ نهائي لمشكلة تواجد مقاتلي حزب العمال الكردستاني وفروعهم في داخل سوريا.