IMLebanon

السنيورة: على لبنان الابتعاد عن ممرّ الأفيال

التقتْ صحيفة “الراي” الكويتية الرئيس فؤاد السنيورة عشية وصوله إلى الكويت في حوارٍ تَطَرَّقَ إلى قضايا العرب ومِحْنتهم وسبلِ وقف الانهيار المتمادي ومعاودة وضْع منطقتنا على خريطة التحولات الكبرى في العالم، إضافة إلى قضايا لبنانية ساخنة.

وفي ما يأتي نص الحوار:

  • تبدو بيروت كأنها ملعب النار الأكثر اشتعالاً على الكوكب بأسْره بأحداث لم يحدث مثيل لها منذ نحو قرن… لماذا كل هذه البراكين المتفجّرة؟ وكيف يمكن الخروج من الحريق قبل أن يتحدث المرء عن حلول؟

– لا شك في أن العالم يشهد تحوّلات كبرى ولديه مصالح ليست بالضرورة متلائمة مع بعضها البعض بل وفي كثير من الأحيان هي متنافرة ومتنافسة. كما أن العالم يبحث عن ساحات تستطيع القوى الدولية أو الإقليمية استخدامها لممارسة صراعها وتَنافُسها، وتالياً لتحسين مواقعها.

والحقيقة أن عالَمنا العربي شهد خلال الفترة الماضية مزيداً من الخلخلة ما نتج عنه فعلياً تَراجُع التضامن والتعاون بين مكوّناتِه ودوله، وهو ما أدى في المحصلة إلى وجود حال فراغ في المنطقة. ونعلم أن الطبيعة تكره الفراغ، وتالياً هناك مَن يحاول ملء هذا الفراغ بممارسة نفوذه بطريقةٍ أو بأخرى، ويسعى إلى استخدام هذه الساحات.

نحن نعاني مشكلاتٍ عميقة منذ عقود عدة في المنطقة، وهي مشكلات تَسبّبتْ بها أنظمةُ الاستبداد في العالم العربي والفشلُ في إيجاد حلول للدول الوطنية، ما سمح بوجود هذا الصراع، وهو أمر أعتقد انه غير قابل للاستمرار، فالطريقة الوحيدة لمعالجة هذه المشكلات المتضخمة والمتعاظمة هي العودة إلى المنطلقات الأساسية.

الخلافاتُ العربية وعدم القدرة على مواكبة التحولات من حولنا، والمتغيّرات الكبرى مع الطفْرة العلمية والتكنولوجية التي أدّت إلى سقوط حواجز الزمان والمكان، وسقوط حواجز الصمت والخوف في أكثر من بلد كما تَعاظُمت التوجهات الشعبوية في أكثر من بلد في العالم… كل هذه الأمور أدّتْ بنا إلى عدم وضوحِ البوصلة في العالم العربي لجهة كيفية معالجة مشكلاتنا، ما يجعل من الملحّ العودة إلى المنطلقات الأساسية. فهذا هو المدخل لتصويب البوصلة وإعادة رص الصفوف ولا سيما أن تَراجُع الفكر الوطني الجامع والعروبي المستنير، ساهم في أن تطفو على سطح الاهتمامات العربية مشكلاتٌ تتعلق بالهوية وأيضاً بالخلافات التي اعتقدنا إننا دفناها منذ قرون فإذ بها تعود على بساط الفكر الشعبويّ وتجلياته التي أدتْ إلى ما نشهده من مشكلاتٍ تتعلق بالهوية الطائفية والمذهبية.

  • كان النظام الإقليمي العربي، على هشاشته، مانعةَ صواعق، أما المنطقة الآن فتكاد أن تكون محكومة بإراداتِ ثلاث دولٍ إقليمية غير عربية… إسرائيل، ايران وتركيا. كيف يمكن العرب أخذ قضاياهم بأيديهم؟

– أعتقد أنه لا بد من العودة إلى البحث عن الجوامع بين الدول العربية، بدءاً من المصالح المشتركة ومبادئ التكامل فيما بيننا ولا سيما أننا نتشارك اللغة والثقافة والمصالح التجارية والاقتصادية وأيضاً إدراكَنا للأخطار الكبرى التي قد تعترض عدداً من دولنا.

وتالياً عندما نستعين بالمبادئ الأساسية التي تجمع بين الدول العربية نستطيع أن نكوّن رأياً عاماً عربياً حقيقياً يتعاطف معه العرب أينما كانوا، بحيث يستطيعون أن يكونوا كفوئين للحوار مع القوى الإقليمية أو التصدّي لها.

وهنا في رأيي يجب أن نميّز بين أمرين: أولاً إسرائيل عدوّة، والعرب ما زالت لديهم قضية أساسية هي القضية الفلسطينية وهي القضية الكبرى لجميع العرب الذين تَقدّموا في قمة بيروت العام 2002 بالمبادرة العربية للسلام، وعلينا التأكيد على هذه المسألة نظراً لمحاولة إسرائيل الضغط من أجل تصفية القضية الفلسطينية وقضية اللاجئين، وتالياً إنهاء فكرة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وفقاً لحدود العام 1967 وعاصمتها القدس. هذه هي المشكلة والأولوية التي تعنينا والتي يجب معاودة رص الصفوف على أساسها.

الأمر الثاني أن لدينا خصومة حقيقية بين دولٍ عربية وبين دولتين إقليميتين، وإن كانت هناك فروق كبيرة في طبيعة وحدّة الخلافات بين الدول العربية وإيران وبين الدول العربية وتركيا.

وبالنسبة إلى إيران، فهي على حدودنا الشرقية، وتالياً لدينا مشكلات ناجمة عن إمعانها بالتدخل في الشؤون الداخلية وإثارة الفتن وشحن الخلافات الطائفية والمذهبية واستعمال نظرية تصدير الثورة على أساس ما يسمى بولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية، وفي ذلك مخالفة كبيرة جداً لمنطقٍ دولي ساد على مدى قرون عدة ويقوم على وقف النزاعات الناتجة عن التدخلات من الدول الإقليمية بعضها مع بعض.

وفي رأيي يجب أن يصار إلى بناء قناعة جديدة في التعامل مع إيران على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الدول العربية ورفْض النظريات التي تؤدي إلى مزيد من التفسّخ والشرذمة داخل الصف العربي. فثمة مصلحة مشتركة لإيران والدول العربية على أكثر من صعيد، لكن ذلك يتطلب اعترافاً وإدراكاً من إيران بأن المسار الذي تعتمده لا يوصلها الى أي نتيجة، بل هو مسار تدميريّ لثقافتنا العربية والإسلامية، وتدميريّ للجهود والطاقات ولن يُنْتِج أي شيء في المحصلة، لأنه لا يمكن لإيران أن تصل إلى ما تحاول أن تدّعيه من أن لديها أربع دول عربية تذعن لتدخلاتها ولسلطتها. هذا الأمر لن يتحقق، وما تقوم به إيران فعلياً سيؤدي الى مزيد من التدمير الذاتي والتدمير لجيرانها وخسارة الطاقات والفرص الكبرى.

يجب أن يسود فكرٌ جديد مبني على إعادة فتح الجسور الحقيقية بين إيران والدول العربية، وأعتقد أنه يجب أن تتوافر الإرادة لدى إيران كي نمدّ اليد لها على أساس الإقرار بأن ليس هناك إمكانية للعلاقات بين المجموعة العربية وإيران إلا على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

أما بالنسبة إلى تركيا ـ فهناك أيضاً حدود شمالية بيننا وبينها، وتالياً لنا علاقات أساسية معها تتجاوز العلاقات التجارية والثقافية والتاريخية، بل هناك أنهر تنبع في تركيا وحياة كلّ من سورية والعراق تستند إلى جريان تلك الأنهر، وتالياً هناك ضرورة لبناء علاقة سوية بين الدول العربية وتركيا، إضافة إلى المصالح المشتركة.

لم يعد في مقدور الدول العربية الاستمرار في هذا التشرذم الذي يؤدي إلى مزيد من الإطباق الذي تمارسه كلّ من إيران وتركيا فيما يخص ما يجري الآن في سورية، فهذا الأمر لم يعد مقبولاً على الإطلاق. وأعتقد أن الوضع العربي أصبح يقتضي جهداً أكبر يمكن أن تبذله الجامعة العربية ودول عربية تتمتع بالقدرة والاحترام والمقبولية من الدول العربية الأخرى للعمل من أجل إيجاد الحد الأدنى من التضامن الذي يمكن أن يبنى عليه من أجل صوغ موقف عربي جامع يؤكد على مصالح العرب المشتركة وعلى موقفهم الواضح والصريح والحازم والحاسم تجاه القوى الإقليمية، إن كان ذلك بالنسبة إلى إسرائيل أو بالنسبة إلى إيران وتركيا.

  • تحدثتم عن مفارقة صعبة تحكم عالمنا العربي… الخوف من الدولة والخوف عليها، ما شروط إصلاح الدولة الوطنية والمصالحة معها… عقْلنةُ الخطاب الديني، تطوير البنى الديموقراطية، فصلُ الدين عن الدولة، جعل التنمية أولوية… ماذا؟

– بعد هذه التجارب المريرة التي مررْنا بها، علينا استخلاص الدروس بأن هناك قواعد يجب أن نعود إليها، أكان ذلك على صعيد انتمائنا العربي أم بناء الدولة الوطنية التي تستند إلى قواعد القانون والنظام واحترام الدساتير والممارسة الحقيقية لمبدأ تداول السلطة والمحاسبة على أساس المسؤولية وأن يتسلم هذه المسؤولية مَن هم أكفاء. فهذه القواعد غادرناها وانصرفْنا لتبرير ما يقوم به المسؤول، أكان ذلك عن صواب أو عن خطأ، وسادت العالم العربي أنظمةٌ استبدادية وهو ما أدى إلى ما يسمى مرحلة الربيع العربي التي فعلياً يجب إيلاؤها المزيد من الدروس والبحث.

وأستطيع القول إن جزءاً من الانتفاضات في العالم العربي كان ناتجاً عن حالٍ من اليأس والغضب والشعور بالمهانة والتهميش، وتالياً حاولت أن تعبّر عن نفسها لكنها سقطت في استدراجاتٍ من هنا وهناك واستُعملت لتصبح مطية لبعض الأنظمة ولتدخلات إقليمية ما أدى إلى تدمير الدولة الوطنية وتدمير مجتمعاتنا العربية.

يجب ان يصار إلى الخروج من هذه الحال عبر ما يُسمى العدالة الانتقالية أو المرحلة الانتقالية ليتاح أمام الناس اختيار من يستطيعون أن يتولوا شؤونهم العامة، وذلك بطريقة سليمة وصحيحة، وأن يصار إلى صوغ الدساتير الجديدة. وعلى الدول العربية القادرة أن تساعد في ذلك من أجل تمكين الدول المعنية من التغلب على هذه المشكلات الكبرى. وتالياً الأمر ليس بعيداً عن الإدراك لتحقيقه، بل ينتظر إرادةً حقيقية للتوصل الى ما يؤدي بنا لمعالجة المشكلات التي تمرّ بها سورية والعراق وليبيا واليمن، والمعاناة التي يعيشها لبنان بسبب ظروفه الداخلية والتداعيات التي تطرأ عليه نتيجة الأحداث في العالم العربي. فكل هذه الأمور تتطلب تَفَكُّراً ومبادرات لأن هذا الخطر لا يمسّ فقط الدول التي تعاني من الأحداث وإنما يعرّض الدول العربية الأخرى لمزيد من الأخطار.

  • مَن ينظر إلى لبنان عن بُعد ربما يكتشف أنه في حرب مُقَنَّعَة لم يخمدها اتفاق الطائف. فقبل الـ2005 «سَوْرَنَةٌ» حكمتْ بقوة الوصاية، وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري تعطيل… ومع الاقتراب من الاحتفال بمئوية لبنان الكبير، هل الكيان، الفكرة، النموذج في خطر؟

– اللبنانيون لم يدركوا حقيقةَ هذه الفكرة الجامعة التي توصلوا إليها في الطائف والتي أنتجت اتفاق الطائف ودستور لبنان الجديد الذي استطاع مرة جديدة أن يبني على هذا التنوع اللبناني كي يصبح مصدر ثروة وغنى للبنان وللبنانيين وللمنطقة بدل أن يكون مصدراً من مصادر الاختلاف والخلاف.

والحقيقة هنا أنه عندما أستشهد بالكلام الذي صدر عن قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عندما قال «إن لبنان هو رسالة أكثر منه وطن»، فهذا الكلام لم يصدر عن شخص لا يدرك ماذا يقول، بل على العكس هذا الرجل استخلص الكثير من هذه الصيغة التي جعلتْ من لبنان ومن فكرة العيش المشترك بين اللبنانيين فكرةً جامعة للبنانيين ونموذجاً لعدد من الدول العربية المجاورة التي لديها هذا التنوع، وأيضاً نموذجاً لدول أخرى يمكن اقتباسه والاستفادة منه.

وإذا كان اتفاق الطائف يحمل رسالة لبنان، فإن الرسالة تتطلّب أن يكون هناك رسول يحملها ويبشّر بها ويؤكد على تبنيها واعتمادها. والمشكلة أن اللبنانيين لم يبذلوا الجهد الكافي كي يقوموا بدور الرسول.

والأمر الثاني أن مَن أُعطي دور الوصاية لتنفيذ هذا الاتفاق لم يمارس هذا الدور بالشكل السليم. فالنظام الأمني السوري – اللبناني مَنع في المحصلة استكمال تطبيق اتفاق الطائف ومعالجة الأمور التي طرأت في عملية الممارسة كي يصار إلى التطبيق الصحيح والسليم، انطلاقاً من مسلَّمة قام عليها لبنان وترتكز على احترام إرادتين.

نعرف أن لبنان عندما تأسس العام 1920 ومن ثم نال استقلاله، جرى صوغ اتفاق مبني على احترام سلبيتين: عدم المطالبة باتحاد لبنان مع سورية أو العالم العربي، وعدم المطالبة بالاستمرار بالانتداب الفرنسي.

وجاء دستور الطائف وبنى على إيجابيتين: انتماء لبنان العربي الثابت وأبدية الدولة اللبنانية وسيادتها واستقلالها، وثانياً جاء لبنان بنظام المجلسين، وجود مجلس نواب تشريعي يشرّع القوانين ومبني على احترام إرادة الفرد الذي يريد الأمن والحرية والعمل والخدمات والمدرسة والجامعة.

وإذا كان مجلس النواب يُطَمْئن الفرد إلى حاضره وغده، إلا أن هذا الفرد اللبناني هو جزء من جماعات، وتالياً أتى اتفاق الطائف أيضاً بمجلس شيوخ يحترم إرادة الجماعات. وفي تقديري مجلس الشيوخ ليس مجلساً تشريعياً بل مجلس يتولى وضع الضوابط الصحيحة لمنع أي افتئات أو تهميش لأي مجموعة لبنانية.

وطبيعي انه في المرحلة الانتقالية، يفترض أن يتحوّل لبنان دولة مدنية فعلية يتساوى فيها الجميع. ودستورنا في جوهره يحترم الدولة المدنية ويستند إلى قواعدها، وتالياً ينبغي أن يصار إلى احترام قواعد الديموقراطية والتمثيل والحريات العامة وألا تُسلَّم المسؤوليات العامة إلى مَن هم ليسوا أكفاء، وإعادة الاعتبار إلى الجدارة في تولّي المسؤوليات، على ألا يكون أحد فوق المساءلة التي يجب ان تحصل عبر المؤسسات وليس بالطريقة الفضائحية والشعبوية التي لا تؤدي إلى المحاسبة بل إلى انطواء كل مجموعة داخل مربّعاتها الطائفية والمذهبية لتفرض نوعاً من الحصانة حتى على المخالفين.

  • ما يدور همْساً قاله أخيراً البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بصوت عالٍ عندما تحدّث عن هواجس من مؤتمرٍ تأسيس ومثالثة وتغيير في النظام والهوية والإطاحة بالطائف… هل تراودكم المخاوف عينها؟

– طبعاً، الأمر لا يقتصر على مخاوف. لقد سمعنا كلاماً غريباً جداً من بعض المسؤولين يقول نحن نريد ان نعدّل الدستور بالممارسة. ما هذا الكلام عن تعديل الدستور، وهو أسمى القوانين، من طريق مخالفته؟ وكيف يقول أحدهم إن القانون الفلاني لا يعجبني ولذلك لا أريد تطبيقه؟

علينا أن نعود إلى الأساسيات، أي إلى احترام الدستور والقوانين ومصلحة الدولة الجامعة للناس، والعودة إلى احترام مصالح لبنان واللبنانيين في علاقاتهم مع الدول العربية، وإلى احترام استقلالية القضاء واحترام الكفاءة والجدارة في تحمُّل المسؤوليات.

وأعتقد أن التوجّه الذي تحدّث عنه غبطة البطريرك كان واضحاً بأنه لا يقبل بتلك المخالفات التي يرتكبها البعض ضدّ الدستور والقوانين واتفاق الطائف، الاتفاق الذي يجمعنا وتالياً يمثّل بالنسبة إلينا الدستور الذي يجب أن ننتهجه. وغالباً ما يُستحضر ما كان يقوله الرئيس الراحل فؤاد شهاب عندما تتعقد الأمور: هاتوا بالكتاب، أي الدستور.

رئيس الجمهورية كرّمه الدستور عندما أوكل اليه مهمة الحفاظ عليه واحترامه، وكرّمه لأنه الشخص الوحيد الذي يقسم على احترام الدستور. وعندما يتولى رئيس الجمهورية هذا الدور يكون أقوى شخص في الجمهورية لأنه يستند إلى الدستور ويشْرف على مّن يطبّقه ومَن يخالفه، وهذا ما يجعل رئيس الجمهورية قوياً، ليس قوياً لأنه يريد مزيداً من الوزراء ومزيداً من النواب وغير ذلك… هو فوق الخلافات وهو الحكَم والمرجع والشخص الذي يمكنه أن يحتضن الجميع ويردّهم إلى الطريق الصواب. هذا هو في رأيي الدور الذي أوكله الدستور الى رئيس الجمهورية، وهو دور إستثنائي وهو تالياً أقوى شخص في الجمهورية، لكن قوته تعني القوة الناعمة التي لديها كل التأثير وكل الإمكانية لتصويب المسارات في العمل السياسي في إدارة الحُكم.

  • إلى ماذا يؤسس الكلام الآن عن حصة الرئيس، الثلث المعطل، مهلة التكليف، العودة إلى البرلمان، ووضْع مفتاح تشكيل الحكومة في جيب هذا وذاك؟

– كل هذا أعراف مُخالِفة للدستور.

ما هي هذه الأعراف المبنية على أنه لكل أربعة أو خمسة نواب وزير يمثّلهم؟ هذا لا علاقة له بالنظام الديموقراطي البرلماني. مَن يؤلف الحكومة هو الرئيس المكلّف بناءً على استشاراتٍ ملْزِمة يُجْريها رئيس الجمهورية.

الرئيس المكلّف موجب عليه استشارة كل الأطراف ولكنه غير ملزَم على الإطلاق بأخذ مطالب هذه المجموعة أو تلك. هو ملزم بتأليف مجموعة متضامنة، متعاونة، متجانسة تستطيع أن تأخذ ثقة مجلس النواب وأن تحكم. الامتحان الذي يُعرّض له الرئيس المكلف هو مجلس النواب، وتالياً هو غير ملزَم بأن يلتزم برأي هذه المجموعة أو تلك.

وهذه المجموعة التي سُمّيتْ السنّة المستقلين جاءت بولادة قيصرية غير طبيعية. فهؤلاء الستة كانوا منتمين إلى كتلهم، ذهبوا الى استشارات التكليف المُلزمة على هذا الأساس ثم ذهبوا إلى الاستشارات مع الرئيس المكلف على هذا الأساس ايضاً، ثم فجأة ونتيجة لأوامر إقليمية أو تداعيات إقليمية، ظهروا على أنهم متكتلون. ورغم ذلك الرئيس المكلف غير ملزَم بتمثيلهم وبإمكانهم ألا يعطوا الثقة، وهذا هو الأمر الذي أوصَلَنا إلى أن الأمور معلّقة لأن هناك مَن لا يرغب في تشكيل الحكومة الآن، وكل يوم يأتي بأسباب مختلفة لعدم تأليف الحكومة.

  • وقفتَ وربما وحيداً في البرلمان تحذر مما آل إليه الوضع الاقتصادي – المالي الآن وبلوغه الخطوط الحمر… كيف يمكن تفادي الانزلاق إلى ما هو أسوأ؟

– حذّرتُ، ليس فقط في المسألة المتعلقة بسلسلة الرتب والرواتب الجديدة، بل منذ أعوام كنت أقول إن هناك متغيرات وظروفاً صعبة يمكن أن يمر بها أي بلد، وهو ما يقتضي عملاً إصلاحياً يتناغم مع ما تفرضه الظروف… الإصلاح ليس أغنية نردّدها لنُسمِع الناس أننا نؤمن بالإصلاح. الإصلاح أمر تقوم به الأمم وتعتمده وتكون مثابِرة عليه، وهو عملية مستمرّة وليس مرّة في العمر. لكن هذا الإصلاح تُجْريه الأمم عندما تكون قادرة عليه وبحاجة إليه وليس عندما تصبح مجبَرة عليه، لأنه عندها تكون العمليةُ الإصلاحية شديدة الكلفة وشديدة الألم وشديدة التأثير على فئات عديدة من المجتمع وقد يكون فات الأوان عليها.

ونحن نمر الآن في فترة شديدة الصعوبة، لكن ما زال هناك مجال للبنان للخروج من المأزق الذي هو فيه.

وأعتقد أن البلد يحتاج إلى مواقف جازمة ممن يتولى المسؤولية في الدولة بالعودة إلى احترام القانون والدستور والدولة ومصلحتها ودورها وسلطتها ونفوذها واحتكارها لحمل السلاح، وهذا هو الملاذ لتصويب البوصلة ووضْعِها في مصلحة لبنان واللبنانيين وعلاقاتهم مع الدول العربية والنأي بالنفس عن الانغماس في الخلافات العربية التي ليس للبنان مصلحة فيها. وفي رأيي أن على لبنان ان يبتعد عن ممرّ الأفيال، لأنه غير قادر على مواجهة الصدمات الكبرى الآتية من الخارج.