IMLebanon

رؤساء بلديات متنيون أمام القضاء: نهاية أمبراطورية المر

كتبت رلى إبراهيم في صحيفة “الأخبار”:

لم يكن ميشال المر نائباً ووزيراً وحسب. زعامته «الامبراطورية» التي شملت وزارة الداخلية ومحافظة جبل لبنان والقائمقاميات والإدارات الرسمية، انطلقت من سيطرته على اتحاد بلديات المتن الشمالي وأكبر البلديات في القضاء. ولكن منذ عودة العماد ميشال عون الى لبنان، ثم التقارب السياسي بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، بدأت مملكة المر تتهاوى، ولا سيما بعد رفع الغطاء السياسي عن رؤساء البلديات الذين يحاكمون اليوم أمام القضاء بتهمة اختلاس الأموال وسوء إدارتها. وبعد المنصورية، يخضع رئيس بلدية سن الفيل نبيل كحالة للمحاكمة، تماماً كزميله رئيس بلدية بيت شباب الياس الأشقر؛ الأول بتهمة الهدر، والثاني بتهمة تلويث نهر الكلب والمياه الجوفية.

يمثل رئيس بلدية سن الفيل نبيل كحالة بتاريخ السابع من الشهر الجاري أمام الهيئة الاتهامية استناداً الى القرار الظني الصادر بحقه من قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان نقولا منصور. الدعوى هذه تأخرت نحو 13 عاماً، بعدما تقدمت المدعية بلدية سنّ الفيل ممثلة برئيسها نبيل كحالة بشكوى أمام النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان بحق مجهول، وعرضت بموجبها أنه تم الاستيلاء على دفتري الواردات والصندوق العائدين لعام 2006. يومها، أثناء التحقيق، أي بعد نحو 10 أيام من التقدم بالشكوى، كما جاء في القرار الظني الصادر بتاريخ 30/1/2018، «تبيّن فقدان 11 دفتر ايصالات للصندوق عائدة للعام 2006، وكذلك دفتر الصندوق للعام 2005». وبعد استدعاء البلدية شركة متخصصة في التدقيق المحاسبي لإعادة تكوين قيود المحاسبة والتدقيق في إيرادات البلدية ومصاريفها، أظهر التقرير وجود نقص كبير في صندوق البلدية يقارب نحو 800 مليون ليرة لبنانية، الأمر الذي حمل البلدية على التقدم بشكوى ثانية أمام النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان بتاريخ 30/11/2006.

تقول مصادر متنية مطلعة على الملف إن «المسار القضائي البطيء سببه تدخلات سياسية غالبيتها من النائب ميشال المر وحزب الكتائب، على اعتبار أن الأخير وديعة مشتركة للطرفين». وهو ما أدى فعلياً الى تأجيل صدور قرار ظني رغم اكتمال التحقيق من عام 2006 الى عام 2018. استمرت المخالفات حتى بعد صدور القرار الظني، حيث كان يفترض وفقاً للمادة 112 من قانون البلديات «كفّ يد رئيس البلدية أو نائبه أو أحد الأعضاء إذا صدر قرار ظني أو حكم بدائي بحق أيّ من هؤلاء بقرار من المحافظ حتى صدور الحكم النهائي». أما إذا اتهم أحد هؤلاء بجناية أو ظن به بجنحة شائنة «وجب كفّ يده بقرار من المحافظ حتى انتهاء الدعوى». وفي حال «استرداد مذكرة التوقيف أو إخلاء السبيل يعود حكماً الى ممارسة أعماله إن لم يكن قد أوقف بجناية أو بجرم شائن». لكن، وقبل ذلك، لا يمكن ملاحقة الرئيس أو نائبه أو أحد الأعضاء جزائياً من أجل جرم يتعلق بمهامهم إلا بناءً على موافقة المحافظ الخطية وفقاً للمادة 111 من القانون عينه.

ما الذي تغير اليوم حتى يمثل أمام القضاء كل من رئيس البلدية نبيل كحالة، ورئيس الدائرة الادارية والدائرة المالية بصورة مؤقتة جورج أبو انطون (خرج الى التقاعد)، وأمين الصندوق السابق اسطفان فرح (يخرج في شهر أيار الى التقاعد)، والممسك بدفتري الصندوق والواردات والمصارفات شكيب حبيب (خرج الى التقاعد لكنه استمر بالعمل في البلدية رغم ذلك وكان هو الرئيس الفعلي للقسم المالي، بحسب اعتراف رئيس البلدية)؟
الواضح أن الغطاء السياسي الذي كان فوق رأس رئيس البلدية والأعضاء بات أضعف من أن يحميهم اليوم. فالواقع أن النائب ميشال المر بكل ما كان يمثله من نفوذ سياسي وبلدي وفي الادارات العامة وفي المحافظة وفي وزارة الداخلية تحديداً، بدأ بالاضمحلال شيئاً فشيئاً مع عودة العماد ميشال عون الى لبنان في العام 2005، وصولاً الى تحوله الى مجرد نائب من دون إضافات في العام 2018. ولكن بقي المر متحصّناً في العامين الماضيين بالمونة على وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي بدوره يمون على محافظ جبل لبنان الى حين تقارب التيار الوطني الحر وتيار المستقبل سياسياً، ما أسهم في ترتيب «اتفاق في ما خص رؤساء بلديات المتن الشمالي تحديداً، ليبدأ هؤلاء بالتهاوي الواحد تلو الآخر، من رئيس بلدية المنصورية الى رئيس بلدية بيت شباب وصولاً الى رئيس بلدية سن الفيل». ويقول المعنيون بالملف إن «السبحة ستكرّ تدريجياً على غالبية رؤساء البلديات القابعين في بلداتهم منذ سنوات يرتكبون المخالفات بحماية من المر وبموافقته وموافقة اتحاد بلديات المتن الشمالي الذي ترأسه ابنة المر، ميرنا». بعد تبدّل الأوضاع السياسية، لم يعد لرجال المر من يحميهم، وهؤلاء بمعظمهم شكلوا لسنوات عديدة ماكينة النائب المتني الانتخابية، والسبب الرئيسي لزعامته، لكونهم يشغلون بلدات الساحل المتني الأساسية.

سقوط حصن المر
«الأخبار» اتصلت برئيس بلدية سن الفيل نبيل كحالة للاطلاع منه على تفاصيل القرار الظني ومثوله بداية الشهر المقبل أمام الهيئة الاتهامية. يقول الأخير إن ما يجري «افتراء لأنني أنا ادّعيت عام 2006 ضد مجهول، وأتى بشركة خاصة لإجراء عملية تدقيق، فظهر النقص في أموال الصندوق، لتعيّن الدولة على إثرها خبيراً». ويشكو كحالة من تأخير المحاكمة، قائلاً: «بدي اخلص بقا، قبل أن يؤكد أن له ثقة تامة بالقضاء. ويشير الى أنه شخصياً حاول مراراً تحريك القرار من دون جدوى، «الى أن قرر البعض، لمآرب خاصة، تحريك الملف خلال فترة الانتخابات النيابية». ويهمه التأكيد أن المواد القانونية التي يُتَّهم بناءً عليها هي «مواد خاصة بالاهمال الوظيفي فقط». فبحسب قرار قاضي التحقيق في جبل لبنان، تقرر الظن بكحالة والأعضاء الثلاثة بمقتضى المادتين 363 و373 عقوبات لجهة إساءة إدارة أموال البلدية وإهمالهم القيام بمهامهم الوظيفية، ما ألحق الضرر بالمال العام. فرئيس القسم المالي في البلدية شكيب حبيب اعترف خلال التحقيق معه بأن «أمين الصندوق كان يدفع مبالغ قبل تنظيم عقد النفقة والحوالة، وقد أبلغ ذلك من رئيس البلدية». كذلك اعترف بأنه كان «ينظم شخصياً إيصالات بقيمة التأمين من دون أن يقبض قيمتها، لأنها تعود لعمليات وهمية تعود لمناقصة واحدة تعاد لأصحابها من دون دفع، كونها لم تقبض حين نشوئها، وكان يتم ذلك بأمر من المدعى عليهما رئيس البلدية نبيل كحالة وجورج أبو أنطون».

نبيل كحالة: ما يحصل افتراء بحقي لأني تقدمت بالدعوى و«بدي أخلص بقا»

أما التحقيق مع كحّالة نفسه فأثبت أنه كان يطّلع شفهياً على واقع الصندوق ولم يعترض على أقوال شكيب حبيب لجهة تنظيم إيصالات من دون قبض قيمتها، لأنها تعود الى عمليات وهمية (…). كذلك اعترف أبو انطون بأنه كان يدفع مبالغ من أموال البلدية من دون مستندات ومن دون أوامر صرف بناءً على أمر شفهي من رئيس البلدية. وتبين من مراجعة كشف لجنة الخبراء المكلفة من النيابة العامة أن رئيس البلدية ورئيس القسم المالي كانا يديران أموال البلدية من دون دفتر صندوق، بحيث تسجل عمليات القبض والدفع على دفتر عادي تمزقت أوراقه. كذلك فقد دفتر المصارفات ودفتر الصندوق ودفتر الإيرادات عن العام 2006، وتوقفت البلدية عن تنظيم البيان الفصلي للاعتمادات والنفقات من آخر عام 2005 لغاية تنظيم التقرير في عام 2007، وان النقص الذي قارب 800 مليون ليرة نتج عن تراكم الفروقات الحاصلة خلال ولاية المجلس الحالي.
من جهة أخرى، اعتبر قاضي التحقيق أيضاً فعل الأعضاء الثلاثة الباقين جورج ابو انطون واسطفان فرح وشكيب حبيب من نوع الجناية المنصوص عليها في المادتين 359 و360 عقوبات (اختلاس الأموال).
فتح هذا الملف الباب واسعاً حول التدخل السياسي الحاصل في القضاء، حيث غالباً ما تنام الدعاوى نحو 40 عاماً، كما حصل في ملف مشاع المتين الذي كان قد ضمّه النائب ميشال المر الى نطاق بلدة بتغرين. يومها طعنت البلدية في سلخ مشاعها عنها، من دون أن تلقى أيّ صدى لهذا الطعن، الى أن حرّك القضاء قضيتها بداية العام الماضي، وتمت إعادة مشاعها اليها. ومن وقتها، سقطت هالة ميشال المر، وبدأ الحبل الذي كان يشدّه حول البلديات المتنية التي رفضت الانصياع له يشتد حول أزلامه.

رئيس بلدية بيت شباب يحول نهر الكلب إلى مكب لنفاياته
لجأ غالبية رؤساء البلديات، عند بروز أزمة النفايات في العام 2015، إلى استسهال رمي النفايات في مجاري الأنهر والغابات والشواطئ المحاذية لبلداتهم، فلم يكلفوا أنفسهم عناء أخذ المبادرة لبدء عملية الفرز وتحفيز المواطنين عليها وصولاً إلى استغلال عرض الدولة للبلديات الراغبة بإنشاء معامل للفرز بتقاضي أموالها. جرائم بيئية خطيرة حصلت يومها في المتن الشمالي. إذ تبين بناء على ادعاء شخصي من الناشطة البيئية المحامية ميريام جبر (شغلت سابقاً منصب عضو في بلدية بيت شباب)، أن رئيس البلدية المدعوم من النائب ميشال المر، الياس الأشقر، دأب على رمي النفايات عشوائياً في منحدر قوي يقع في أسفله مجرى نهر الكلب. واللافت أن الأمر يجري منذ العام 2010 واشتد في العام 2015 مع بروز الأزمة، إلا أن كل الدعاوى الموثقة المقدمة من جبر منذ العام 2010 لم تحرك أحداً في الدولة اللبنانية سوى في العام 2017 حين أحيل الملف على النيابة العامة، ليصل بداية 2018 إلى قاضي التحقيق في جبل لبنان نديم الناشف ويصدر قراره الظني في 26/11/2018. فبتاريخ 22 و23 من شهر كانون الثاني 2018 قام فريق من وزارة البيئة بالكشف على مصب نهر الكلب، وتبين له انتشار للنفايات المنزلية الصلبة وألواح الخشب وعيدان القصب على طول الشاطئ المحاذي للمصب إلى جانب نفايات مكونة من مواد بلاستيكية جميعها تطوف على سطح النهر وتنتشر على ضفافه. ومن خلال التحقيقات تبين أن رئيس بلدية بيت شباب الياس الأشقر أوعز إلى الأجهزة البلدية برمي هذه النفايات مما أدى إلى تلويث البيئة والنهر والمياه الجوفية. لذلك أمر قاضي التحقيق بتحويل ملف الأشقر إلى القاضي المنفرد الجزائي في كسروان لمحاكمته. وتقول المصادر إن هذا المكب اعتبر بحسب تقرير مشترك للـUNDP ووزارة البيئة صادر في العام 2016 من بين أكبر 20 مكباً ذات أولوية تستوجب إقفالها. يومها بعثت وزارة البيئة بكتاب إلى الريس ولكن تم تجاهله. وطبعاً لم يكن هذا الإخبار ليصل إلى ما وصل إليه لو لم يرفع غطاء المر، ليتكلل في الأشهر المقبلة بجلسات محاكمة علنية لواحد من أقدم رؤساء البلديات في المتن الشمالي.