IMLebanon

هل انتهى “اتفاق الطائف”؟

كتب إياد أبو شقرا في صحيفة “الشرق الأوسط”:

ما حدث في جلسة مجلس الوزراء اللبناني قبل أيام لا يحتاج لفتوى من مونتسكيو أو فرانسيس بيكون أو مطالعة من دانيال وبستر، بل، ولا قراءة من عدنان عضوم… ما حدث تطوّر مفصلي، لكنه طبيعي جداً، في ظل الظروف التي يعيشها لبنان اليوم.

رئيس الجمهورية، باختصار شديد، قرّر عملياً إلغاء «اتفاق الطائف» على مرأى ومسمع من «مجلس الوزراء مجتمعاً»، أي الهيئة التي تجسّد – وفق الدستور – السلطة التنفيذية في البلاد.

لقد ألغى رئيس الجمهورية «اتفاق الطائف» بفضل تسلّحه بقانون انتخاب فرضه اختلال المعادلة السياسية والعسكرية والديموغرافية في لبنان، واستقوائه بنتيجة انتخابات أجريت على أساس ذلك القانون في ظل سلاح «حزب الله» ونفوذ «دولته الأمنية»، واستناده إلى حصة وازنة و«معطِّلة» في مجلس وزراء مطلوب منه أن يكون عاجزاً.

في الأصل، رئيس الجمهورية كان على رأس المعارضين قولاً وفعلاً لـ«اتفاق الطائف»، في حين أن «الحزب» الذي هو «حليفه» في «تفاهم مار مخايل» كان أكثر تكتماً على رفضه المطلق لـ«الطائف»، إلا أنه نجح وفق استراتيجية مدروسة ومتأنية في تقزيمه… وصولاً إلى نسفه.

لقد كانت أولوية «التيار الوطني الحر»، الذي أسّسه العماد ميشال عون، قبل أن يتبنى «حزب الله» ترشيحه للرئاسة وتأمينها له، استغلال سلاح «الحزب» وقاعدته المذهبية وارتباطاته الإقليمية لإلغاء «الطائف» الذي – وفق العونيين – «حرم» المسيحيين من موقعهم في السلطة التنفيذية وعزّز نفوذ المسلمين السنّة. ولكن، بما أن المسيحيين كانوا عاجزين بقواهم الذاتية عن استعادة «امتيازاتهم» من السنة، كان لا بد من اللجوء إلى التحالف مع «الحزب» وقاعدته الشيعية لتحقيق هذه الغاية.

في المقابل، فإن «حزب الله» كان ولا يزال جزءاً من مشروع هيمنة إقليمية إيرانية. وفي بلد تعدّدي مثل لبنان، حيث يصطدم هذا المشروع بالكتلة السنّية، كان من الضروري جداً العمل على طمأنة المسيحيين، ومن ثم كسبهم… كجزء من الصورة الإقليمية المتكاملة لبناء «تحالف الأقليات» ضد «البحر السنّي». وحقاً، اختار «الحزب»، ومن خلفه حكام طهران، دعم المتشددين المسيحيين في لبنان لكي يكونوا صوتهم في المحافل الخارجية.

ولعل أي لبناني يتمتع بذاكرة جيدة يتذكر بعض المواقف المسيحية من اندلاع الانتفاضة السورية في آذار 2011، ومنها قول نفر من أكبر مرجعياتهم ما معناه «أن نظام دمشق سيئ… لكن بديله أسوأ». ومن ثم، جرى تسويق هذا المنطق على أعلى المستويات في أوروبا والولايات المتحدة.

وفي خط موازٍ، كانت طهران تنشط في دعم التشدّد الأصولي والتطرّف الإرهابي السنّي، في كل مكان، من أجل إبراز دور إيران كـ«شريك» في «محاربة الإرهاب التكفيري» الذي روّجت أبواقها له على أنه النموذج الحقيقي للإسلام السياسي السنّي. لهذه الغاية كان الدعم المستتر للجماعات المتطرفة على الحدود الأفغانية – الباكستانية، ومساندة حركة «الجهاد الإسلامي» وتيار التشدد في حركة «حماس» في غزة، وصولاً إلى الإحجام عن التصدّي الفعلي لتنامي التيارات المتطرفة إبان الانتفاضة السورية و«غزو» تنظيم «داعش» للموصل. لقد سعت طهران طيلة سنوات لتغذية التطرّف السنّي تمهيداً إلى «شيطنته» وعقد التحالفات الدولية لضربه.

للأسف، انساق السذّج وراء لعبة المتآمرين – شيعة وسنة – فرأينا الحصيلة المؤلمة التي نرى اليوم في المنطقة، من العراق إلى سوريا ولبنان، إلى اليمن وليبيا.
المجتمع الدولي، أيضاً، انساق وراء اللعبة. وفي حين وقفت روسيا والصين منذ البداية في صف طهران، فإن فظائع «داعش» في سوريا والعراق كانت «ذريعة» أكثر من كافية لتحمّس الدول الكبرى في أوروبا الغربية للتفاهم مع طهران، والتعايش حتى مع طموحها النووي وسياساتها التوسعية. ثم، على الرغم من انتهاء عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي اختار التحالف مع طهران ضد ضحايا نظامها ومشروعها في المنطقة، بقيت أولويات واشنطن في عهدها الجمهوري الحالي تعتبر غايتها الأساسية – في سوريا، على الأقل – التصدّي لـ«داعش».

حقيقة الأمر، أن واشنطن كانت، وما زالت، على بينة من دور طهران و«حشدها الشعبي» في العراق. إنها تدرك تماماً عمق العلاقة بين نظام بشار الأسد الأمني في سوريا و«الحرس الثوري الإيراني»، وهي العلاقة التي دعت إلى مشاركة ميليشيا «حزب الله» اللبناني، مع غيره من الميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية والإيرانية، في حرب «إنقاذ» نظام دمشق.

أيضاً، واشنطن، ومعها باريس ولندن، تعرف تماماً تفاصيل المشهد السياسي في لبنان، والهيمنة الزاحفة لـ«حزب الله» على مفاصل القرار السياسي اللبناني.
العواصم الثلاث على دراية كافية بـ«سيناريو» هذا المشهد منذ عام 2000، عندما حصل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، ومنذ محطتي 2006 و2008 الزمنيتين المهمتين للغاية.

في عام 2006، كما يتذكّر اللبنانيون، أقدم «حزب الله» على شنّ عملية عبر خط الحدود ردّت عليها إسرائيل بهجوم واسع مدمّر، انتهى بـ«صفقة» إنهاء الوجود العسكري لـ«حزب الله» جنوب نهر الليطاني بجنوب لبنان. «الصفقة» لم تجرّد «الحزب» من السلاح الذي ما عاد بمقدوره استخدامه ضد إسرائيل. وفي عام 2008 وجّهه للداخل اللبناني، ثم الداخل السوري عام 2011.

واشنطن وباريس ولندن أيضاً على دراية تامة بظروف تعطيل «حزب الله» الحياة السياسية في لبنان من أجل فرض مرشحه، العماد عون، رئيساً للجمهورية. وهي تفهم تماماً معنى أن تحظى قوة «أمر واقع» مسلحة وخارجية الولاء – ومسيطرة واقعياً على البلاد – بغطاء شرعي ودستوري يوفره لها رئيس الجمهورية وحزبه.

وكانت ثالثة الأثافي، قبول العواصم الثلاث أن تفرض قوة «الأمر الواقع» نفسها – مدعومة هذه المرة برئيس جمهورية «شرعي» – بقانون انتخابات يناسبه بل هو مفصل تفصيلاً على قياسه، بحيث لا يكتفي بضمان غالبية نيابية، بل يضمن غالبية نيابية دائمة تدعمها «شرعية الرئاسة» و«غلبة السلاح».

ما يشهده لبنان اليوم هو النهاية الفعلية لـ«اتفاق الطائف»، وضمن المعطيات الراهنة… حتمية انتفاء الحاجة لـ«المحكمة الدولية لاغتيال رفيق الحريري ورفاقه»!