IMLebanon

لبنان يخسر بطريرك استقلاله الثاني

كتب السفير د. هشام حمدان في صحيفة “اللواء”:   

لبنان، هذا الوطن الصغير في شرق الحوض البحر الأبيض المتوسط، يلبس اليوم السواد حدادا على قائد  كبير في تاريخه الحديث غبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير.

هذا الرجل الذي حمل تراث اللبنانيين منذ ألوف السنين، ووقف في وجه العاصفة التي أرادت اقتلاع لبنان من جذوره الحضارية المتوارثة، ورميه هدية، في صراع الأمم على أرض القداسة، وقال: لا ولا كبيرة لكل القوى العظمى والإقليمية التي سعت عبثا، لإفراغ لبنان من مسيحييه، وتحويله إلى صحراء قاحلة، فكريا وتراثيا وإنسانيا ووطنا مشرذما في هذا الشرق المعذب،

لبنان، الذي يضم أقدم مدن العالم القائمة في العالم حتى الآن، هذا البلد الذي ورد اسمه أكثر من سبعين مرّة في العهد القديم، والذي ظلّ يحمل اسمه ذاته، لألوف السنوات،

لبنان الذي خدم الإنسانية منذ قيامه، فقدم أحفاده الأبجدية للعالم وأبحروا من شواطئ صور وصيدا وجبيل وبيروت إلى العالم، واضعين أول نظام للتجارة كقاعدة للعلاقات السلمية بين الشعوب، وقدموا اللون الأرجواني اللون الذي جعله ملوك التاريخ لون عباءاتهم،

لبنان الذي زرعت في أرضه شواهد التطور التاريخي منذ العصر الحجري حتى اليوم، وكانت جباله مأوى الأقليات الدينية التي لجأت إليها هربا من الاضطهاد، فتحول إلى مختبر انصهرت فيه هذه الديانات، حتى صارت تقرأ من كتب بعضها البعض، وتكمل شعاراتها بشعارات الآخر، فبرزت قوة الوحدة الإيمانية والتلاحم بين الحضارات، مما دفع قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لتلقيبه بالرسالة،

لبنان البلد الذي حوله هذا التعايش الحضاري إلى جسر ثقافي وحضاري بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، فقامت على أرضه أولى جامعات الغرب، وترسخت فيه قيم الحرية والديمقراطية، فانتشرت الصحف والمسارح والمنتديات الفكرية، وكان الملجأ لكل طالب حرية ورافض للاستبداد والديكتاتوريات،

هذا الوطن الذي زرع أبناؤه في كل بلدان العالم، فساهموا في تطورها وتقدمها، وصاروا جزءا من تاريخها الحضاري الذي تفخر به،

هذا الوطن كاد يضيع في لحظة جنون لسياسيين أداروا دفة القيادة في العالم عام 1975، فحاولوا بيعه في مزاد مصالحهم السياسية، حيث سعوا أولا لإخراج المسيحيين منه، فلما رفضوا رموهم في نيران حرب مع شركائهم في الوطن، حرب لم تكن من شيمهم،  وسعوا لإخضاعهم عبر وصاية جعلتهم مواطنين من الدرجة الثانية، فوقف هذا العملاق الكبير بكل ما كان لديه من سلطة روحية، ليقول: لا ولا كبيرة لتلك الحرب ولتلك الشرذمة ولتلك الوصاية بل لأية وصاية من أي طرف خارجي. وقال لبنان ليس قاصرا ويكفي أن توقفوا دعمكم لمن يقتل الروح الوطنية السيادية في ابنائه، لكي يستعيد دوره الموروث. وقال: لبنان ليس أرض صراع الحضارات، ووقف إلى جانب القديس يوحنا بولس الثاني يقول: لبنان وطن الرسالة ودوره أن يعلم البشرية أن الأديان خلقت لتجمعنا وليست لتفرقنا.

بطريرك الضمير اللبناني، حمل الصليب إلى كل زاوية معذبة في وطنه، وجال في العالم يصرخ من أجل وحدة لبنان وشعبه وحياده عن الصراعات، وقد وصلت رسالته إلى قادة الحريات في العالم، فوقف الرئيسان بوش وساركوزي في البيت الأبيض يؤكدان أنه يجب إنقاذ هذا الوطن وضمان حياده، ووقف الرئيس كلينتون في اجتماع حاشد عن القيادة في تكساس، ليقول: «أن القيادة تعني مساعدة هذا البلد لاستعادة استقراره».

هذا البطريرك يغيب اليوم ولبنان ما زال يدفع الثمن الباهض للحظة الجنون التي عصفت ببعض قيادي الحرية والديمقراطية في العالم، حيث حلت الدويلة مكان الدولة، وامتهن مصاصو الدماء من سياسييه، جمع المغانم، وصاروا سلعة سهلة في معرض المزادات التجارية، يبيعون من خلال الغريزة الطائفية، كرامات مواطنيه وتاريخهم ليضيفوا إلى خزائن ثرواتهم،

ترانا ماذا نقول في يوم غيابه، سنقول وعدا أن لا نخلف العهد، وسيعود لبنان كما أردت: وطن الرسالة والجسر الثقافي والحضاري وموئل الحريات. رحمات الله عليك.