IMLebanon

كرة القدم أصبحت جنونًا… وبرشلونة أكبر الخاسرين (بقلم راجي كيروز)

لا يخفى على أحد أن كرة القدم أصبحت لعبة تجارية بقدر ما هي لعبة رياضية، فالمستثمر في أي ناد يعمل بعقلية رجل أعمال وليس بعقلية رياضي، وبالتالي لا يهتم بالأسس الرياضية بقدر ما يهتم بالأسس الربحية. وهذا الأمر يصنع شرخًا واضحًا بين مشجعي النادي الذين يدعمونه لا لشيء إلا لكي يفرحوا ويحتفلوا، في مقابل إدارة النادي التي لها غايات تجارية وربحية في المقام الأول. إلى جانب ذلك، الأسعار في سوق اللاعبين آخذةٌ في الارتفاع بشكل جنوني، خاصةً بعد صفقة نيمار الشهيرة مع باريس سان جرمان بقيمة 220 مليون يورو، ما جعل كرة القدم لعبة تجارية أكثر مما كانت هي أصلًا. فبعد هذه الصفقة تحديدًا، أصبح مبلغ المئة المليون مبلغًا عاديًا يُتداول به، تخطاه برشلونة نفسه مرتين مع عثمان ديمبلي وفيليبي كوتينيو لتعويض رحيل نيمار، ومجددًا من يومين بتوقعيه مع الفرنسي أنطوان غريزمان. هذا ليس حال النادي الكتالوني فقط، فأتليتيكو مدريد صرف من أسبوعين مبلغ 120 مليون يورو للّاعب البرتغالي جواو فيليكس، صاحب الـ19 عامًا.

دفعُ المبالغ الهائلة ليس بجديد، لكنه بدأ يأخذ منحًى تصاعديًا خرج عن السيطرة، فأندية كباريس سان جرمان ومانشستر سيتي وريال مدريد لطالما دفعت الكثير لبناء فرقها، منها من أخفق ومنها من حلّق. لكن تحوّل كرة القدم إلى لعبة تجارية في المقام الأول أقصى، وسيقصي أكثر، احتمال حدوث سيناريوهات للتاريخ، كما حدث مع ليستر سيتي مثلًا، أو مع أتليتيكو مدريد في مواسم عدة، قبل أن يصبح، بشرائه فيليكس، ناديًا من تلك النوادي.

هذه المقدّمة تودينا إلى الحديث عن برشلونة بشكل خاص، لأن تجربته فريدة نوعًا ما. يطلق مشجعو كرة القدم، غالبًا، على مشجعي برشلونة تسمية “أطفال الـ2009″، في إشارة إلى أن محبي النادي الكتالوني لم يشجعوه إلا بعد فوزه بالثلاثية في ذلك العام، حيث قدّم أفضل كرة في تاريخ النادي مع المدرب الإسباني بيب غوارديولا. إن التسمية، في جوهرها، ليست بالإهانة. فمن الصعب حقًا ألّا يميل الفرد إلى تشجيع فريق قدّم أجمل كرة قدم في تاريخ المستديرة بالنسبة إلى كثيرين، وهذا بعيدًا عن الإنجازات التي حققها أيضًا. ففي زمن ذلك البرشا، كان شبه مستحيل أن يحقق أي ناد آخر شيئًا يذكر، سواء على مستوى الأرقام أم على مستوى الأداء. وما ميّز البلوغرانا أكثر بعد، هو اعتماده في نواته على خرّيجي أكاديميته، كليونيل ميسي وتشافي هرنانديز وأندريس إنييستا وسيرخيو بوسكتس وبيدرو رودريغيز وكارلس بويول وغيرهم. هذا لا يعني أن النادي لم يكن يصرف أموالًا لاستقطاب اللاعبين، لكن نواته كانت برشلونية خالصة، ولذلك كانت التجربة أكثر فرادةً.

مع مرور السنين، ورحيل غوارديولا خاصةً، بقي برشلونة من الأفضل في العالم، ولكنه فقد هويته شيئًا فشيئًا. إذ بدأ يعتمد بشكل أكبر على شراء اللاعبين، ومع اعتزال أو انتقال أركان النادي تباعًا، بدءًا من بويول ثم مع تشافي إلى إنييستا، فقد النادي جزءًا من بريقه. ثلاثي ميسي ولويس سواريز ونيمار التاريخي استطاع أن يبقي النادي على مستوى عال جدًا، لكنه لم يصمد بعد رحيل نيمار، فأضحى الوضع أسوأ، على مستوى الأداء كما على مستوى النتائج، وهذا طبيعي. فبرشلونة غوارديولا و”لاماسيا” ما عادت موجودة، ومع اتجاه السوق إلى الصرف الجنوني، وموقع برشلونة الكروي، لم يكن ثمة خيار إلا الدفع بشكل جنوني أيضًا لمجاراة البقية، خاصةً الغريم الأساسي ريال مدريد. أضف إلى ذلك اعتياد جماهير النادي على الفوز بالألقاب سنويًا، ما يجعل أي موسم من دون لقب موسمًا فاشلًا حتمًا، وبالتالي لا مجال لأي مدرب بأن يبني فريقًا من القاعدة، بدل أن يملأ الفراغات فقط. وفعلًا، هذا الصرف لم يثبت أي جدوى. فالنادي خسر أداءه الساحر وأصبح يقدّم كرة مقبولة نسبيًا، خاصةً مع المدرب الحالي إرنستو فالفيردي، في مقابل تخبّط تام على مستوى الإنجازات، خاصةً في دوري أبطال أوروبا. كما أخفق النادي في اتباع منطق شراء الشخص المناسب في المكان المناسب، فدفع أكثر من 200 مليون يورو مقابل لاعبَين لم يقدّما شيئًا يذكر حتى اليوم، بدلًا من أن يستثمر مبلغ نيمار ببناء فريق قوي من جديد، من خلال شراء لاعبين يُرجعون النادي إلى مستواه المعهود.

إدارة النادي وصلت إلى نقطة اللاعودة ولم تغيّر سياستها في سوق الانتقالات الصيفية الحالية، فاشترت نجمًا جديدًا في الهجوم (غريزمان) ليُضاف إلى لائحة النجوم الأربعة الموجودين أصلًا، كما يُحكى عن رغبة نيمار في العودة وإمكان تحقيقها. ميسي وسواريز وديمبلي وكوتينيو وغريزمان ونيمار في ناد واحد؟ هذا جنون وإهانة.

برشلونة يعيش أزمة هوية حقيقية، وحتى لو عاد إلى الطريق الصحيح من حيث الأداء والألقاب – وهذا هو الهدف المنشود في النهاية – فهو فقد نفسه. فقد تميّزه عن الآخرين وأصبح ناديًا ينجز لأنه يدفع، مع الإشارة إلى أنه من الظلم توقّع مسار آخر في ظل الوضع الحالي – فهذا برشلونة، والمشجعون والخصوم والإعلام لا يرحمون.

يبقى ميسي، تقريبًا، آخر عنقود زمن برشا الجميل، وهو من يحفظ ماء وجه النادي في الحد الأدنى. وبرحيل الأسطورة الأرجنتينية، نودّع نسخة برشلونة “أطفال الـ2009” إلى الأبد، ونرى نسخةً جديدةً كليًا للنادي الكتالوني، نأمل أن تكون جميلةً أيضًا، لمصلحة كرة القدم قبل مصلحة مشجعي النادي.