IMLebanon

جنبلاط يستعيد المبادرة: هذا الجبل لي

كتبت كلير شكر في صحيفة “نداء الوطن”:

يعرف رئيس “الاشتراكي” وليد جنبلاط كيف يختار مفرداته بدقّة. كلمات معدودة جداً تكفي للتعبير عن مجلّدات من الأفكار. له نمطيته الخاصة في الخطابة. قد يخطئ وقد يصيب. المهم أنّه قادر على ترك بصمته. مريدوه كما كارهوه، يسجلون له قدرته على سرقة الأضواء والانتباه، سواء كان في موقع المديح أو الذم، البطولة أو الضحية أو الجلاد، أو حتى المذنب. ثمة مخرج محنّك يلهو في ذهنه، يعرف كيف يختارالصورة والصوت ويوظفهما لمصلحته.

يوم السبت الماضي، استعاد شريط الأحداث المفصلية في مسيرته، مسترجعاً المشهديات الأكثر تأثيراً ووقعاً على نفوس ناسه. انتقى منها تاريخ الأحد الواقع في 19 آذار 2017، الذكرى الأربعين لاستشهاد كمال جنبلاط، والتي استثمرها لوضع كوفية الزعامة الجنبلاطية على كتفي نجله تيمور:

حشد من الجنبلاطيين قصدوا المختارة بهدف تجديد الولاء، تحت عنوان “أربعون سنة، ونجدد العهد”، إلى جانب إحاطة سياسية عبّرت عن مزاج الزعيم الدرزي في تلك المرحلة. رئيس الحكومة سعد الحريري يحضر شخصياً الاحتفال، وقد وضع كوفية حول عنقه أيضاً، وسار إلى جانب وليد جنبلاط. وكأن المشهد يشبه وقفة جنبلاط إلى جانب الحريري في العام 2005. بقي الحريري على يسار جنبلاط طوال إلقائه كلمته، وعلى يمينه الوزير حسين الحاج حسن والنائب حسن فضل الله، ممثلين عن “حزب الله”، والنائب علي بزّي ممثلاً الرئيس نبيه برّي على رأس وفد من حركة “أمل”.

أبرز ما توجه به يومها إلى نجله قوله: “عند قدوم الساعة ادفنوا أمواتكم وانهضوا، وسيروا قدماً فالحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء”.

يوم السبت الماضي وقف جنبلاط على منبر ثانوية “مؤسسة العرفان التوحيدية” في السمقانية، الشوف، وهو المدرك مكانة هذا المنبر ورمزيته في الوجدان الدرزي. الحشد هو نفسه، ولكن الإحاطة السياسية تغيّرت: ملحم رياشي ممثلاً رئيس حزب “القوات” سمير جعجع يجلس مكرّماً في الصفوف الأمامية، وكأنها استعادة لبعض “أنفاس” 14 آذار، خصوصاً وأنّ ملائكة الحريري كانت حاضرة من خلال المقويات التي مدها رئيس الحكومة إلى جنبلاط عبر الوقوف إلى جانبه في رفض إحالة ملف أحداث قبرشمون إلى المجلس العدلي.

أما التقاطع الأبرز بين الحدثين، اللذين يفصل بينهما أكثر من سنتين، هو توجهه إلى الحاضرين بالقول “إنّ الثروات مهما علتْ لن تردَّ الأكفانَ عنّا آجلا ام عاجلاً. إدفنوا أمواتكم وانهضوا”.

على الرسم البياني لمواقف جنبلاط خلال أزمة الشحار الغربي، يتبيّن أنّ زعيم المختارة، قرر الانتقال من مربع الاستيعاب والإيجابية في التعاطي، إلى مربع المواجهة ورفع السقوف. لا مجال للمقارنة بين ما أدلى به يوم السبت وما حرص على توجيهه خلال الأيام الأولى للأزمة.

يقرّ الجنبلاطيون انّ “خطاب العرفان” رسم خطاً فاصلاً بين المرحلتين. بنظرهم، قدم زعيمهم كل الأوراق المتاحة لكي تنتهي الأزمة على خير، ولذا سارع إلى رفع الغطاء عن المرتكبين، فيما كان ينتظر أن يقوم الفريق الآخر بخطوة مماثلة تحقيقاً للعدالة، خصوصاً وأنّ القوى السياسية باتت مطلعة ولو على نحو غير رسمي على النتائج الأولية للتحقيقات والتي تظهر أنّ أحداث قبرشمون كانت بنت ساعتها ولم تكن مدبّرة.

ويشيرون إلى أنّ جنبلاط قرر تغيير قواعد اللعبة بعدما ثبت له أنّ منطق مدّ اليد لم يجد من يبادله بالمثل، حيث لا تزال حادثة الشويفات نموذجاً للعدالة المبتورة، وبعدما قدّم “الحزب التقدمي الاشتراكي” كل التسهيلات الممكنة لطي صفحة أحداث الجبل، إلا أنّ ثمة من يصرّ على تكبير حجر الأزمة، وهذا الأمر في غير محله.

عملياً، يثبت انتقال رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” من صفوف الدفاع إلى صفوف الهجوم، أنه بات مرتاحاً لمسار الأمور. يكفيه أن يلمس احتضاناً درزياً لكي يتخلى عن رايته البيضاء، ويشهر سلاح لسانه. يلفت الاشتراكيون إلى أنّ جنبلاط هو “ابن الأزمات”. يتماهى معها بسهولة. تتجذر زعامته كلما بدت أنها محاصرة أو مستهدفة. هذا ما حصل خلال الحرب، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بعد أزمة السابع من أيار…وها هي تستعيد وجهها مع تعرضها للضغوط.

يقولون إنّ رادار جنبلاط رصد تعاطفاً شعبياً قبل وقوع أحداث الجبل وخلالها وبعدها، خصوصاً وأنّه بدا وكأن هناك استهدافاً شخصياً له وللوزير أكرم شهيب. وهو بالتالي لم يلجأ إلى التصعيد لشدّ العصب وإنما لملاقاة ناسه بعد سقوط محاولات فرز الشارع الدرزي على نحو عمودي، وقد تبيّن أنّ هذه المحاولات لم تلق أصداء لدى العائلات الكبيرة أو في صفوف المشايخ.

ويؤكدون أنّ جنبلاط استعاد هدوءه وقوته التي يستمدها من الاحتضان الدرزي له لا سيما وأنّ شريحة كبيرة من مريديه أبدت استعدادها لكل السيناريوهات الممكنة، ولهذا قرر الانتقال إلى مرحلة “المواجهة” السياسية، بعدما أثبتت كل محاولات المعالجة السياسية فشلها، خصوصاً وأنّه مرتاح لموقف الحريري وجعجع حيث تفيد المعلومات أنّ السعودية لعبت دوراً مؤثراً في “تصليب” موقف كل من رئيس الحكومة ورئيس حزب “القوات” ليبقيا إلى جانب رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”.

في المقابل، يعتبر بعض خصومه أنّ جنبلاط يحاول توظيف حالة الاستنفار الاشتراكية وليس الدرزية، لأنّ الدروز يرفضون الانجرار إلى مزيد من التوتر في الجبل، حيث يفترض أن تشهد الأيام المقبلة ملامح تسوية تنهي بنظرهم الأزمة، مؤكدين أنّ سياسة رفع السقوف لن يكون لها أي استثمار سياسي حتى لو ربح جنبلاط الجولة، لأن المعركة الحقيقية ستكون يوم توضع سلة التعيينات على الطاولة، وحينها سيعود “الحزب التقدمي الاشتراكي” مجرد مكوّن بين مكوّنات درزية عدة.