IMLebanon

إستقلالية المركزي ومصداقية السياسة النقدية

كتبت د. سهام رزق الله في “الجمهورية”:

إستقلالية المصرف المركزي مفهوم قديم متجدد يستقطب الأنظار في المفترقات الاستراتيجية في اعتماد السياسات النقدية لاسيما في فترات الأزمة، وخصوصاً أزاء تحديات تعثّر السياسة المالية وصعوبة مواجهة حاجات التمويل للعجز العام والتصدي لأزمة استدامة المديونية العامة. وبعد الفورة الكبرى لإشكالية استقلالية المصرف المركزي وأهميتها لتأمين مصداقية السياسات النقدية في الثمانينات، عادت هذه الاشكالية بمتطلبات مختلفة في السنوات الأخيرة لاسيما مع اعتماد السياسات النقدية غير التقليدية بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. فماذا تعني السياسات النقدية غير التقليدية؟ لاسيما في ما يتعلّق بضرورة إستقلالية المصرف المركزي لتحقيق مصداقية السياسة النقدية؟ ما هي أبرز أشكال وأسس هذه السياسات؟ وما مدى تأثيرها المرتقب على صعيد الإستقرار النقدي كما المالي؟
عندما نتحدث في الإقتصاد على إستقلالية المصرف المركزي نعني بها تحديداً إستقلالية السلطة النقدية عن السلطة السياسية، بحيث يكون للمصرف المركزي حرية تحديد خياراته في اعتماد السياسة الأنسب للحفاظ على الاستقرار النقدي في الشق الداخلي عبر ضبط التضخم، وفي الشق الخارجي عبر الحفاظ على استقرار سعر صرف العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية. ومن المعروف إقتصادياً أن مفهوم استقلالية المصرف المركزي يعتمد على ثلاث ركائز أساسية: الاستقلالية القانونية في النصوص، الاستقلالية الفعلية في الممارسة والاستقلالية المالية في حسابات المصرف المركزي تجاه الدولة. ولطالما شددت الأدبيات الاقتصادية وخصوصاً مع الموجة الكلاسيكية في الثمانينات على أن تحقيق الهدف الرئيسي للمصرف المركزي بتأمين الاستقرار النقدي لا يمكنه أن يتحقّق إلا من خلال الفصل التام للسياسة النقدية للمصرف المركزي عن السياسة المالية للحكومة ووزارة المال خصوصاً لتفادي لجوء الحكومة متمثّلة بوزارة المال لطلب تغطية عجوزاتها المالية من خلال تدخل المصرف المركزي، إن كان عبر ضخ السيولة وتحمّل انعكاساتها التضخمية الفورية أو من خلال الضغط على المصرف المركزي للمساهمة في الدين العام عبر الإكتتاب بسندات الخزينة والتفاوض حول شروطها بالكمية والآجال ومستوى الفوائد…أو طبعاً اللجوء الى افتعال زيادة في السيولة واصطناع نهضة عابرة في الأسواق في فترات محددة، مثل الفترات التي تسبق الإنتخابات، لإحداث صدمة إيجابية وهمية لا تلبث أن تتحوّل كابوساً تضخمياً يصعب ضبطه دون أن تكون مساهمة بنمو إقتصادي حقيقي وخلف فرص العمل المطلوبة.

أما منذ الأزمة المالية عام 2008 ، فقد اضطرت المصارف المركزية للتدخّل في الأسواق ولعب دور المنقذ لتأمين السيولة المطلوبة للقطاعين العام والخاص وتفادي الإنهيارات الشاملة عبر السياسات النقدية غير التقليدية المعتمدة والتي شكّلت مفترقاً كبيراً في مفهوم إستقلالية المصرف المركزي لجهة تأمين التدخل المطلوبة لتمويل الاقتصاد مع المحافظة في الوقت عينه على مصداقية سياسته النقدية ومنع المس بخياراته في تأمين الاستقرار النقدي الضروري.

وقد جهدت السياسات الحديثة غير التقليدية في تثبيت إمكانية تحقيق مصداقية المصرف المركزي ولو بظل مساهمته في تمويل الدولة والدين العام عبر زيادة السيولة وتخفيض معدل الفوائد الى ما يلامس حدود الصفر دعماً للإستثمار ولتنيشط الاقتصاد ككل، ذلك أن من خلال سياسة المعايير الإسترشادية القائمة على إعطاء الجمهور علماً مسبقاً بمخططات السلطة النقدية لجهة تنامي Forward Guidance الكتلة النقدية ومستوى الفوائد واتجاه سعر الصرف بما يساعد العملاء الإقتصاديين على صياغة توقعاتهم بشكل صحيح، خلافاً لأسلوب المفاجأة والكتمان الذي كانت بعض المصارف المركزية تعتمده لإحداث فورة إقتصادية فجائية ولو بكلفة تضخّم باهظة. وهذا ما حرص على اعتماده حاكم مصرف لبنان مؤخراً إن كان لجهة الإعلان عن التوجهات النقدية للمصرف المركزي او لجهة الإضاءة على دقة الأوضاع المالية التي تستدعي تدخله خصوصاً عبر الإضطرار الدائم لتمويل القطاع العام حتى أصبح أبرز المكتتبين بسندات الخزينة والتي تدفعه مراراً للمشاركة في عمليات السواب والهندسات المالية مع المصارف التجارية، مما يعكس الشكل الثاني من السياسات النقدية غير التقليدية المعروفة بسياسات التليين النقدي الكمّيQuantitative Easing القائمة على ضخ السيولة لشراء السندات المالية من القطاعين العام والخاص والتليين النقدي النوعي، فضلاً عن الشكل الثالث للسياسات النقدية غير التقليدية القائمة على الشراء الكثيف للسندات على الرغم من ارتفاع درجة مخاطرها Qualitative Easing.

إلا أن السياسات الحديثة غير التقليدية واجهت عوائق عدة حدّت من فعاليتها ولا سيما من حيث انعكاستها على المالية العامة وتحفيز الدولة على ترشيد الانفاق العام وضبط الدين العام، خاصة أن تخفيض الفوائد ومنها طبعاً على سندات الخزينة مما يسمح للدولة بالتراخي في ضبط المديونية طالما أنها غير مكلفة لناحية خدمة الدين العام (أي الفوائد السنوية على أصل الدين) فلا يضغط عليها لتأمين الإنضباط في سياستها المالية وتفادي العجز والإستدانة.

وأكثر من ذلك، يبقى التحدي الأساس بعد انقضاء الأزمة في إمكانية الخروج عن السياسات النقدية غير التقليدية والعودة الى اعتماد السياسات النقدية التقليدية من دون إحداث بلبلة في توقعات الجمهور، بل طمأنته بشفافية الى مجرى الخيارات الجديدة فضلاً عن الضغط لضبط المالية العامة لعدم الإضطرار للتدخل باستمرار واستنفاد إمكانية المصرف المركزي وتحويله عن دوره الرئيسي بتأمين الإستقرار النقدي.