IMLebanon

بشير الجميل… الرئيس القوي على الغياب…

ليس بالأمر السهل أن يتمكن الزمن من طي 37 عاما ثقيلة على لحظة غياب، من دون أن يتمكن من إغراق ذكرى الشخص المقصود في غياب نسيان أراد القدر للبنانيين أن “يحترفوه” إلى حد التطبيع معه ومع سواده الثقيل.. المضني. فكيف بالحري عندما يكون المعني رئيسا بحجم وهامة بشير الجميل.

لم تستطع رزنامة عمر وطن لطالما ضربت له أيامه مواعيد مع الغدر والاجرام أن تمحو من الذاكرة الجماعية اللبنانية صورة بشير الجميل، القائد والبطل والرئيس الأصغر للجمهورية، و”الشهيد الأول”، على ما قاله سلفه الراحل الكبير، هو الآخر، الياس سركيس، في يوم وداعه الوطني في بكفيا المتنية. ذلك أن كلما حل شهرا آب وأيلول على وطن الأرز الذي عشقه البشير حتى الاستشهاد، عادت الذاكرة الجماعية هذه إلى “الجمهورية القوية” التي لم يحتج هذا الفارس السياسي النبيل إلى قسم اليمين الدستورية لإرساء دعائمها. 23 يوما كانت كافية ليحل سحر بشير الجميل على لبنان واللبنانيين. إنها من المرات النادرة والقليلة التي ابتسم فيها الحظ لشعب هذا البلد الذي شلعته حرب الآخرين، وهو ما استشرف بشير خطره على لبنان، وناضل في مواجهته، لا لأسباب شخصية ولا في سبيل طموحات رئاسية بعيدة المدى، بل لأن همه كان واحدا أحدا: تحويل لبنان من صندوق بريد يستسهل الجميع تمرير الرسائل عبره والاقتراع عليه، بغض النظر عن تطلعات أبنائه، إلى الجمهورية القوية ذات الكلمة المسموعة بين كبار صناع القرار السياسي في هذا العالم.

إنه بلا شك طموح كبير، بحجم الحلم الذي حمله الرئيس الشاب للبنانيين الذين لم يجدوا أمامهم أفضل منه خشبة خلاص ليخرجوا من كبواتهم. ذلك أن بشير الجميل، القائد المقدام، الذي لا يهاب تهديدا ولا يخشى إحتلالا ويواجه الخصم بشموخ ، استطاع أن يقفز بحنكة السياسي، وبسمة المتفائل وحنان الأب وشجاعة القائد الثائر فوق انتمائه الحزبي (وهو الذي شغل منصب رئيس المجلس الحربي في الكتائب لفترة من تاريخ الحزب الثمانيني) ليتحول بلمح البصر رئيس الجمهورية الأصغر في تاريخ الجمهورية، مستحقا بجدارة لقب “الرئيس”… بلا صلاحيات… ولا قصر ولا زعامة ولا فخامة. كيف لا وهو الذي شهدت ولايته انتظاما رسميا استثنائيا ستذكره كتب التاريخ، عندما يتوحد اللبنانيون حول تفسيرها، تماما كما أرادهم دوما الرئيس الشهيد، قبل 37 عاما، واستقرارا نادرا ما رأى الناس مثيلا له.

إلى حد أن بعض من عايشوا بشير يعتبرون أن المنطقة الشرقية (ذات الغالبية المسيحية) التي سيطرت عليها القوات اللبنانية (التي أسسها بشير نفسه عام 1980 ليوحد تحت رايتها ما سمي يوما “البندقية المسيحية”، في مواجهة الاحتلالين السوري والفلسطيني) بدت النموذج الأمثل للوطن الذي يريد بشير أن يحكمه وينقل اللبنانيين إليه بعد طول تضحيات ملونة بالدماء الزكية السخية. وهو ما قد يكون دفع الداخل والخارج إلى الاقتناع به مرشحا رئاسيا، علما أنه كان وضع الجميع أمام الأمر الواقع بإعلانه، في تموز 1982، خوض السباق الرئاسي خلفا للرئيس الياس سركيس، وذلك من باب ترشيح لم يكن “للمناورة ولا للتراجع عنه”، على حد قوله في تصريحه الشهير. حقق بشير الحلم… تعددت التفسيرات والنتيجة واحدة: انتخب بشير الجميل رئيسا بعدما قدم، كما كثير من ضحايا الحرب الأهلية البغيضة، تضحيات جمة، ليس أقلها استشهاد فلذة كبده مايا، التي انقض المتربصون بلبنان وبوالدها شرا على جمالها وبراءتها وطفولتها، ليوجهوا إلينا رسالة قاسية: ممنوع أن يحيا اللبنانيون بسلام، فأتاهم الرد من الوالد المفجوع، الذي لجأ إلى إرادته الفولاذية: الجمهورية الحلم ستبصر النور أيا كانت الأثمان… ومهما عظمت الآلام.