IMLebanon

الحريري استقال ورمى «كرة النار» في ملعب عون – «حزب الله» 

 

دَخَلَ لبنان مرحلةً شديدة الغموض ومحفوفة بأخطار الفوضى السياسية والأمنية والمالية مع إعلان الرئيس سعد الحريري أمس استقالة حكومته في اليوم الـ13 للثورة التي انفجرتْ في البلاد، وبعدما قَفَلَ تحالُف «حزب الله» وفريق الرئيس ميشال عون البابَ أمام أي مَخارج توفّر «هبوطاً آمناً» من الأزمة غير المسبوقة التي دخلتْها البلاد منذ 17 أكتوبر الجاري.

وجاءت استقالة الحريري التي أعلنها من دارته (بيت الوسط) في الرابعة من بعد ظهر أمس، وخلْفه صورة والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعدما أدار تَحالُف عون – «حزب الله» الظهرَ لاقتراحيْن تَقَدَّم بهما، واحدٌ يقضي بتعديلٍ وزاري يستبعد الوجوه المستفِزّة، وبينها رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل، والثاني أن يتقدّم باستقالةٍ من ضمن تَفاهُم على مرحلة ما بعدها أي تشكيل حكومة من غير السياسيين وتضمّ خبرات ذات صدقية.

وبدا واضحاً ان الحريري كَسَر باستقالته «الخط الأحمر» الذي كان رَسَمَه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله أمام أي استقالةٍ للحكومة الحالية كما أمام تشكيل حكومة اختصاصيين، وأن زعيم «تيار المستقبل» اختار في توقيتٍ بالغ الحساسية الخروجَ مما يشبه «الإقامة الجبرية» التي وُضع فيها منذ انطلاقة الثورة وحظْر نصر الله استقالته، بحيث بات بين مطرقة الشارع اللاهب (حمى الحريري حِراكه عبر القوى الأمنية) وسندان إصرار تحالف عون – «حزب الله» على الحلّ الأمني لفضّ الانتفاضة انطلاقاً من فتْح الطرق عنوةً عوض الحل السياسي الذي كان يصرّ عليه رئيس الحكومة على قاعدة إما تعديل وزاري جذري وإما استقالة مع خريطة طريق مسبقة لما بعدها.

ولم يتطلّب الأمر عناءً كبيراً لتبيان أن قلْب الحريري الطاولة شكّل سقوطاً للتسوية السياسية التي كانت أُبرمت في 2016 وأوصلت العماد عون إلى رئاسة الجمهورية في 31 اكتوبر من العام نفسه وأعادتْ زعيم «المستقبل» إلى رئاسة الحكومة، ولا سيما أن ما كان تَرَكَ التباساً لجهة كلام رئيس الحكومة عن وضْع استقالته بتصرف رئيس الجمهورية سرعان ما تأكّد أنه لا يعني بأي شكل «نصف استقالة» بل استقالة نافذة عبّر عنها تقديمها من زعيم «المستقبل» خطياً إلى عون في لقاء بينهما لم يستمرّ أكثر من عشر دقائق خرج بعده الحريري وملامح الغضب عليه، وسط تأكيد دوائر «القصر» أن عون سيعلن قبول الاستقالة وتكليف الحريري تصريف الأعمال وتشديد خبراء دستوريين أنه بموجب المادة 69 من الدستور فإنه بمجرد تقديم رئيس الوزراء استقالته تصبح الحكومة بحكم المستقيلة تلقائياً.

ورغم أن الحريري تحدّث في بيان الاستقالة عن «صدمة» أراد إحداثها للخروج من الواقع المأزوم، إلا أن إشارته الى «الحائط المسدود» عكستْ حجم التعقيدات التي أفضت إلى خيار رمي الكرة في ملعب الآخَرين، وسط معلومات عن أن اتصالات كثيفة جرت مع زعيم «المستقبل» نهاراً لثنيه عن قراره وأن لقاءً عاصِفاً عُقد في «بيت الوسط» بينه وبين باسيل وانتهى بطريقة غير ودّية.
واعتبرت الأوساط السياسية أن «غزوة» القمصان السود ابتداءً من ظهر أمس لوسط بيروت ابتداءً من نقطة جسر «الرينغ» وصولاً إلى ساحتيْ رياض الصلح والشهداء حيث جرى تحطيم وحرق «خيم الانتفاضة» وشعارها من مناصرين لـ«حزب الله» وحركة «أمل» اعتدوا أيضاً على الثوار، شكّل أحد مؤشرات غياب التفاهم على استقالة الحريري، بحيث بدا ما يشبه «7 مايو» الجديد (في إشارة إلى اجتياح حزب الله لبيروت ومحاولة اقتحام الجبل في 2008) بمثابة رسالة استباقية لزعيم «المستقبل» أو حتى برسْم المرحلة المقبلة، في ظل اقتناعٍ بأن انسحاب رئيس الحكومة من مرمى «نار» الاحتجاجات في الشارع سيجعل ضغط الثورة ينصبّ على «العهد» (رئيس الجمهورية) وأن «حزب الله» لن يكون في وارد التسليم بحكومةٍ غير سياسية يكون خارجها في غمرة تَرقُّب اشتداد العقوبات الأميركية عليه، وبما يعطي انطباعاً بأن الساحة اللبنانية أفلتتْ من قبضته ومن ورائه المحور الإيراني في لحظة انفجار التظاهرات في العراق.

وأعطتْ هذه «الرسالة الأمنية» من «حزب الله» إشارةً بالغة السلبية حيال ما ينتظر لبنان الذي تزداد مؤشرات الخوف والهلع على واقعه المالي – الاقتصادي الذي لم يخفّف من وطأته استمرارُ المصارف بقفل أبوابها منذ 18 الجاري، ولا سيما بعد «جرس الإنذار» الذي قرعه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من أن «أياماً» تفصل لبنان عن «انهيار مالي»، قبل أن يسارع إلى توضيح أنه لم يتحدث عن أيام للانهيار وانما لضرورة ايجاد حل للأزمة القائمة، والتي وصل معها سعر تداوُل الدولار (تعاني الأسواق شحاً فيه منذ ما قبل الثورة) لدى الصيارفة الى نحو 1750 ليرة (السعر الرسمي ما زال نحو 1510 ليرات).

وفي موازاة تَرقُّب الخطوات الدستورية التالية ومنها تحديد موعد للاستشارات النيابية المُلزمة التي يجريها عون لتكليف رئيس للحكومة الجديدة في ظل رصْد إذا كان الحريري يمكن أن يقبل بمعاودة تكليفه، وهو ما ستعترضه الشروط نفسها التي أفضت إلى استقالته، وإذا كان ائتلاف عون – «حزب الله» يمكنه تحمُّل الأثمان السياسية ولا سيما الخارجية لـ«خسارة» الحريري على رأس الحكومة، استوقف كثيرين أن زعيم «المستقبل» ختم بيان الاستقالة بعبارة «حمى الله لبنان» التي ذكّرت بالجملة الشهيرة التي أنهى بها والده الرئيس رفيق الحريري رسالة استقالته العام 2004 قبل أشهر قليلة من اغتياله إذ قال «أستودع الله سبحانه وتعالى، هذا البلد الحبيب لبنان، وشعبه الطيب».
ورغم أن استقالة الحريري شكّلت مكْسباً للثورة التي حققت أول مطالبها منذ انطلاقتها، لم يظهر أن الشارع في وارد التراجع أو الاستكانة، أولاً لأنه اختار الردّ في الساحات على «اجتياح» «حزب الله» و«أمل» لمعقله في وسط بيروت، وثانياً لأن «الانتفاضة» تريد أن تبقى «قوة ضغط» على الأرض لتحقيق كل الأهداف بدءاً من تأليف حكومة مصغّرة من اختصاصيين تمهّد لانتخابات نيابية مبكّرة.
ولم يكد رئيس الحكومة أن يعلن استقالته حتى تلقّفها الشارع المنتفض بهبّة في الساحات التي استعادت زخمها، وسط مَظاهر فرح في مختلف المناطق، من بيروت وصولاً حتى أقصى الشمال والجنوب وكذلك في البقاع، حيث عبّر المواطنون عن سعادتهم بهذا «الانتصار الأوّل لوجع الناس»، علماً أن بعض مناصري زعيم «المستقبل» قاموا بقطع بعض الطرق في العاصمة بعد الاستقالة ورداً على استباحة مجموعات الشغب وسط بيروت.
أما سياسياً فقد سارع رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، إلى الترحيب بالاستقالة مغرّداً «منذ اللحظة الأولى دعوت إلى الحوار وعندما رفضتُ الاستقالة (وزراءه) سادَ موقف من التململ والانزعاج في صفوف الحزب الاشتراكي. وتحمّلتُ الكثير. لكن في هذه اللحظة المصيرية وبعد إعلان الشيخ سعد الحريري استقالة الحكومة بعدما حاول جاهدا الوصول الى تسوية وحاولنا معه فإنني أدعو مجدداً إلى الحوار والهدوء».
وأعلن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع «حسناً فعل الرئيس سعد الحريري بتقديم استقالته واستقالة الحكومة تجاوبا مع المطلب الشعبي العارم بذلك».
وعلّقت وزيرة الداخلية في الحكومة المستقيلة ريّا الحسن (من فريق الحريري) على استقالة الحريري، وقالت إن هذه الخطوة «كانت ضرورية لمنع الانزلاق نحو الاقتتال الأهلي الذي شهدنا خطَره اليوم (امس) في وسط بيروت».