IMLebanon

الأزمة الحكومية في لبنان تشتدّ «عَصْفاً» والحريري أمام الخيارات الصعبة

 

اندفع لبنان بـ «وثبةٍ سياسية» جديدةٍ نحو المجهول، مع الإرجاء المفاجئ للاستشارات النيابية المُلْزِمة لتسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة حتى الخميس المقبل، بعدما كانت مقرَّرةً أمس، وسط تحذيراتُ بـ «مكبّرات الصوت» من خطر «المجاعة» مع الانزلاق المتمادي للواقع المالي – المعيشي في قعرٍ لا قعر له.

فقبيل بدئها بقليل، أعلن القصر الجمهوري عن إرجاء الاستشارات المؤجَّلة من الأسبوع الماضي، بناءً على تمنٍّ من رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري، الأمر الذي جعل بيروت وجهاً لوجه أمام سؤالٍ مزدوج عن سرّ «ليلة الإطاحة بالحريري» وتالياً أي مصيرٍ ينتظر البلاد في ظلّ استعصاءٍ سياسي يحول دون تشكيل حكومةٍ بديلة عن تلك المستقيلة منذ نحو 50 يوماً.

وبات معلوماً أن «المفاجأة»، التي أطاحت بالاستشارات وربما أقفلتْ البابَ بوجه معاودة تسمية الحريري لتشكيل الحكومة، جاءتْ من الموقف المُباغِت لـ «القوات اللبنانية» برئاسة سمير جعجع الذي صدر فجر أمس بإعلانه أنه لن يسمي أحداً، وهو ما تسبّب بأمريْن:

• قيامُ «اصطفافٍ» مسيحي، وإن لأسباب مختلفة، رافِضٍ لتسمية الحريري، وهو ما عبّرتْ عنه مُعارَضة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفريقه «التيار الوطني الحر» لخيارِ معاودة تكليف زعيم «تيار المستقبل» تشكيل الحكومة، وعدم تسمية الحريري من «القوات اللبنانية»، مما جعل الأخير أمام مشكلةٍ لا يمكن تَجاوُزها تتمثّل في غياب أي غطاءٍ مسيحي وازن لمهمّته أو ما يُعرف بـ «الميثاقية» في بلادٍ تَحْكُمُها التوازناتُ الطائفية.

• التفويض الهزيل الذي كان سيُمنح للحريري لتشكيل الحكومة بحال جرتْ الاستشارات، وهو الأمر الذي تفاداه بطلب تأجيلها بعدما أدْرك أنه لن يسمى من غالبية الكتل البرلمانية الوازنة (كتل التيار الحر، «القوات اللبنانية»، «حزب الله» وحلفاؤه السنّة والدروز)، أي أن الحريري الذي كان يتوقّع حصْد أكثر من 70 صوتاً لم يعد يحظى بأكثر من 59 صوتاً من أصل 128 نائباً (بينهم 15 نائباً مسيحياً من كتل مختلفة) بعد موقف «القوات اللبنانية».

ورغم أن «القوات» أعلنت في بيان تمسُّكها بـ «التحالف الاستراتيجي» مع الحريري وتياره، مذكّرة بمطلبها منذ 2 سبتمبر تشكيل حكومةٍ من اختصاصيين مستقلّين «وقد أتت انتفاضة 17 أكتوبر لتعزز طرح حكومة المستقلين بشكل كبير»، وموضحةً أنها ستعطي الثقة للحكومة بحال جاءت بهذه المواصفات، فإن موقفها المفاجئ خضع لتأويلات عدة.

وإذ فُهم من مصادر قريبة من «القوات» أن عدم تسميتها الحريري يعود لـ «رغبتها في تفادي خطوة ناقصة عبر تسمية الحريري ومن ثم اضطراره تحت وطأة الضغوط إلى تشكيل حكومة بمشاركة القوى السياسية»، ولحرْصها على «تَجَنُّب إحباط الشارع الذي ينادي بحكومة اختصاصيين حيادية»، فإن المصادر عيْنها لم تنفِ «التعرّض لضغوط من القاعدة القواتية لعدم السير بالحريري انطلاقاً من تجربته في الحُكْم»، و«أخْذ القوات في الاعتبار الحال المسيحية».
وفي قراءة متعددة المصدر للاعتبارات التي دفعت «القوات» إلى عدم تسمية الحريري أمكن التوقف عند الآتي:

• إيحاء أوساط سياسية بأن «القوات» التي أَعْلَتْ في مراحل سابقة معركة «استعادة التوازن» الاسلامي – المسيحي داخل السلطة يوم فتحتْ الباب أمام انتخاب عون، الأكثر تمثيلاً، رئيساً للجمهورية غلّبت معركةَ الدفاع عن موقع الرئاسة الأولى لاعتباراتٍ مسيحية، وقررت تالياً عدم كسْر عون بموقفه الحاسم من عدم تسمية الحريري.

• احتمال أن تكون «القوات» أدركت أن ثمة تسوية بين المكوّنين السني والشيعي لمعاودة تكليف الحريري برعاية رئيس البرلمان نبيه بري ولحاجة «حزب الله» إلى الإتيان بزعيم «المستقبل»، الأمر الذي تفادت «القوات» تأمين النصاب له لتجاوُزه المكوّن المسيحي.

• الاعتقاد بأن «القوات» التي استشرفت عدم وجود حماسة من حلفائها الاقليميين لعودة الحريري، أخذت في الاعتبار عند صوغ قرارها الجوانبَ الداخلية والخارجية لموقفها النهائي من تسميته.

وفي أي حال، فإن لبنان دَخَل بعد مفاجأة الاثنين مرحلةً من «حبس الأنفاس» في ملاقاة الخميس الصعب، وسط أسئلة كبرى تحوط بالخطوة التالية للحريري والسيناريوهات المحتملة.

فبعدما سلّم الحريري، في ضوء قرار «القوات»، بأن تسميته من دون مشاركة أي كتلة مسيحية وازنة يُخالِف «حرصَه الدائم على مقتضيات الوفاق الوطني»، منبهاً في الوقت نفسه إلى الخرق الدستوري الذي كان سيشكّله إيداع كتلة «التيار الحر» أصواتها رئيس الجمهورية ليتصرف بها كما يشاء و«الرئيس الحريري لا يمكن أن يغطي مثل هذه المخالفة الدستورية الجسيمة بتسمية أي رئيس مكلف»، تبدو الخيارات المحتملة في الطريق إلى الموعد الثالث للاستشارات محصورة بالآتي:

• أن يتمسّك الحريري بموقفه من التكليف «الميثاقي»، ما يستتبع إما تَراجُع «القوات» عن قرارها، وهو ما لن يحصل، أو تخلّي «التيار الحر» عن رفْض تسميته الحريري الأمر الذي يصعب تَصَوُّره في ظل البيان الواضح الذي أصدره التيار أمس، وعَكَس إصراره على عدم عودة زعيم «المستقبل» لرئاسة الحكومة وفق معادلة «الحريري و(رئيس التيار الوزير) جبران باسيل معاً في الحكومة أو خارجها»، إذ دعا إلى «أن يُقْدِم الرئيس الحريري من موقعه الميثاقي على العمل سريعا لاختيار اسم يتوافق على جدارته وموثوقيته لتولي رئاسة الحكومة (…) لتأليف حكومة تضم وزراء لا تشوبهم شائبة فساد ويتمتعون بالكفاءة والجدارة (تكنوقراط تعيّنهم القوى السياسية) وبخلاف ذلك، فإن التيار غير معني بالبحث في أي حكومة عنوانها الفشل وسيبقى خارجها».

• أن يجازف الحريري بالذهاب الى الاستشارات والخروج بالتفويض الهزيل و«المفخخ» وهذا أمر دونه اعتبارات تتصل بموقعه السياسي كما بموقع المكوّن الطائفي الذي يمثّله ضمن المعادلة الوطنية.

• أن يعتذر الحريري عن قبول أي تكليفٍ له، وإما طرْح اسمٍ يوافق عليه ومحاولة تحقيق توافق حوله، وإما رميه الكرة في ملعب الآخَرين ولا سيما الأكثرية البرلمانية (تحالف عون – الثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة أمل) لتشكيل الحكومة التي يرونها مناسبة وبلا أي غطاء من زعيم «المستقبل»، وهو ما يحاذر «حزب الله» خصوصاً أي انزلاق إليه نظراً إلى تداعياته المحلية والخارجية.

• أن تفرض التعقيدات وعدم حصول تفاهماتٍ ولو بالحدّ الأدنى على ما سيحصل الخميس وما بعده إرجاءً جديداً للاستشارات ربما لمحاولة ردم بعض من الهوة السحيقة بين الحريري و«التيار الحر» بدفْع من «حزب الله»، علماً ان عون كان رفض تمنّي زعيم «المستقبل» إرجاء الاستشـــارات لأسبــــوع عــازياً الأمر الى أن البلاد تدخل في فترة الأعياد.

وفي غمرة هذا الأفق البالغ القتامة، طغتْ الخشية من ارتداداتٍ ذات طبيعة طائفية لبروز «تَقابُل» مسيحي – سني ذات صلة بمعركة رئاسة الحكومة وخصوصاً بعدما كانت دار الفتوى اعتبرت الحريري «المرشح الوحيد» للطائفة الإسلامية، وسط مخاوف من أن يكون لمثل هذا الاستقطاب انعكاسات على الشارع المنتفض.

وتعزّزت هذه الخشية مع البيان العنيف لـ «تيار المستقبل» رداً على موقفيْ «التيار الحر» و«القوات»، إذ اعتبر أنه «كان من المثير للريبة قبيل ساعات من بدء الاستشارات ما صدر عن بعض الكتل بالامتناع عن تسمية اي شخصية لتكليفها، وما يحوط الاستشارات من محاولات التفاف تسعى لمحاصرة موقع رئاسة الحكومة»، متحدثاً عن «تقاطُع للمصالح جرت ترجمته في الموقف الذي صدر عن «التيار الحر» قبل ايّام وقضى بإعلان التحاقه بالساحات والانضمام الى صفوف المعارضة، وبين الموقف الذي صدر بعد منتصف ليل الأحد عن كتلة «القوات» وقضى بالامتناع عن تسمية احد في الاستشارات».

وإذ اعتبر «ان الترجمة السياسية لهذين الموقفين انهما توافقا على عدم تسمية الحريري، واجتمعا على حكومة لا يكون الحريري رئيساً لها»، قال «ان تيار المستقبل لا ينتظر تكليفاً من التيار الوطني ولا من القوات للرئيس الحريري، ولا يقبل ان يتحول موقع رئاسة الحكومة الى طابة تتقاذفها بعض التيارات والأحزاب. وموقع رئاسة الحكومة أكبر من كل هذه الهرطقات، ولن تكون رهينة عند أحد مهما علا كعبه».