IMLebanon

الحريري بين الرئاسة والزعامة (تقرير خضر الغضبان)

كتب خضر الغضبان:

 

ليس مستغرباً ان تصل الأمور بالرئيس سعد الحريري الى ما وصلت اليه أخيراً.. فالخط البياني لسياسته منذ التسوية الرئاسية حتى اليوم كان شبه متوقع، وأكثر من شخصية سياسية قريبة منه أو متحالفة معه كانت قد حذّرته من النتائج السلبية لسياسته، التي يمكن اختصارها بمحطات مفصلية ثلاث التسوية الرئاسية، قانون الانتخابات الأخير وانتفاضة 17 تشرين.

التسوية الرئاسية

الانحدار السياسي الأول بدأ بالصفقة الرئاسية التي أبرمها الحريري مع جبران باسيل، وقامت على أساس تولي الجنرال ميشال عون سدة رئاسة الجمهورية مقابل ترؤس الحريري جميع حكومات العهد. طبعاً، لم تكن هذه الصفقة لتُبصر النور لولا رعاية حزب الله ومباركته، لأنها تخدم مصالحه بشكل مباشر، وتؤمن له الغطاء الأفضل ولمشروعه الاستقرار الأمثل، وذلك من خلال ترئيس كل من الزعيم المسيحي الاقوى والزعيم السني الاقوى.

هنا، لا تفوتنا الاشارة الى ملاحظات أساسية ثلاث.. أولها، مشاركة حزب القوات اللبنانية في هذه التسوية مستنداً الى اتفاق معراب مع التيار الوطني الحر (قبل اشهر قليلة)، في محاولة مسيحية لاستنساخ تجربة أمل– حزب الله. ثانيها، اضطرار الرئيس نبيه بري الى السير بهذه التسوية ليس حباً بعون بل التزاماً بمصالح الثنائي الشيعي.

أما ثالثها، فتصويت وليد جنبلاط لمصلحة عون، ليس قناعة بنهجه ولا بصفته جزءاً من هذه التسوية، إنما حفاظاً على مصالحة الجبل التي أرسى دعائمها مع البطريرك صفير في مواجهة الخطاب العوني التحريضي المتطرف. صحيح أنه كان يعلم أن أصوات “اللقاء الديمقراطي” لن تؤثر في المعادلة المستجدة، لكنه تعمد التعاطي بإيجابية، لعلّ وعسى!

ويبقى الاهم، سلسلة التجاوزات الدستورية التي قام بها العهد بشخص كل من عون وباسيل، والخروقات المتكررة لأبسط القواعد الدستورية، بدءاً من آداء باسيل داخل مجلس الوزراء وانتهاءاً بعملية التكليف والتأليف الحالية.

قانون الانتخابات ونتائجه

الانحدار الثاني، كان من خلال موافقة الحريري على قانون انتخابات هجين هندسه باسيل وحزب الله وساهمت في دوزنته القوات اللبنانية. تقاطعت مصالح هذه القوى على قانون لا يقل مذهبية عما عُرف بالقانون الارثوذكسي، الذي رفضته معظم القوى السياسية عندما تم طرحه في السابق. فإضافة الى الخروقات التي طالت معظم الدوائر الانتخابية، والتي أمّنت لمحور الممانعة عدداً لا يستهان به من نواب يدورون في فلكه السياسي.. شكّل هذه القانون إسفيناً جديداً دُقّ في اتفاق الطائف.

فعوض ان تنحوَ القوى السياسية باتجاه تطبيق بنود اتفاق الطائف، الذي عرقل تنفيذه الوجود السوري آنذاك، وبدلاً من السير نحو قانون نسبي خارج القيد الطائفي يؤمن عدالة التمثيل ويراعي التوازنات الداخلية من خلال تشكيل مجلس الشيوخ (كما ذكر الطائف) الى باقي الاصلاحات المنصوص عنها، ذهبت قوى التسوية الرئاسية، وعن سابق تصور وتصميم، نحو قانون عمّق حدة الانقسامات المذهبية الموجودة بالاصل، وترافق مع خطاب طائفي تحريضي عنصري قاده جبران باسيل بهدف تحقيق ارباح انتخابية، وبغية الظهور بصورة الزعيم المسيحي القوي. هذا الخطاب الذي استمر طيلة الفترة السابقة وصولاً الى واقعة قبرشمون الشهيرة.

فكانت النتيجة خسارة الحريري أكثر من ثلث كتلته النيابية.. وخسارة الخط السيادي (اذا جاز التعبير) للأكثرية النيابية، التي لطالما احتفظ بها في عز المواجهة مع النظام السوري، لمصلحة الخط الممانع. تغيّر المشهد، انتصرت الممانعة وضُرب الطائف من جديد.

انتفاضة 17 تشرين الشعبية

الثابت والأكيد ان عقارب الساعة في لبنان لن تعود الى ما قبل تاريخ 17 تشرين الاول 2019. وإذا كانت سياسات السلطات المتعاقبة منذ الطائف، وغياب الرؤية الاقتصادية – الاجتماعية الواضحة لديها من أبرز مسببات هذه الانتفاضة الشعبية العارمة، إلا ان سلوك اصحاب “الصفقة الرئاسية” الفاضح واستخفافهم المفرط في مقاربة الملفات والتعامل مع الازمات، أدّى الى إنفجار الشارع بوجه الجميع.

 

في البداية، كان تقدير معظم القوى السياسية ان التظاهرات التي فجّرتها رزمة الضرائب المباشرة التي كانت على وشك الإقرار هي مسألة ايام قليلة، لكن الشارع نسف هذا التقدير السطحي، وبدأت موجة الاعتراضات تتوسع في المناطق لتطال مختلف الشرائح الاجتماعية بما فيها القواعد الحزبية لاركان السلطة جميعهم دون استثناء.

رفع المنتفضون ثلاثة مطالب أساسية: استقالة الحكومة، تشكيل حكومة انقاذية تخصصة ومستقلة عن القوى السياسية من اصحاب الخبرة والكفاءة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة. تبنّت بعض القوى هذه المطالب، بينما حاولت القوى المتحكمة في القرار إجهاض الانتفاضة بشتّى الطرق والوسائل، من التوتير الأمني الى الشحن الطائفي والمذهبي الى التخوين وصولاً الى استعمال الشوارع المتقابلة.

حرق الأسماء وصولاً الى حسان دياب

استقالت الحكومة تحت ضغط الشارع، وبدل التفات المسؤولين الى مطالب الناس المحقّة ووضع رؤية عملية للخروج من هذه الأزمة الحادة، بدأت مرحلة المناورات وشد الحبال بين كل من باسيل والحريري والثنائي الشيعي بهدف تحسين الشروط الخاصة بهم في الحكومة المقبلة! فمن لعبة حرق أسماء كل من محمد الصفدي وبهيج طبارة وسمير الخطيب، الى الزهد الذي أبداه الحريري بالتكليف، الى شكل الحكومة بين تكنوقراط وتكنوسياسية.. وصلنا الى حسان دياب.

وجد الحريري نفسه وحيداً.. انكسرت جرّة التسوية وتحطمت أجزاؤها.. لم تمنحه القوات اللبنانية أصواتها في الجولة الاولى التي كانت مقررة للاستشارات النيابية الملزمة، بسبب تضارب المصالح منذ دخول التسوية الرئاسية حيّز التنفيذ واستبعادها (اي القوات) كلياً لمصلحة ثنائية باسيل – الحريري.

علاقة الحريري الفاترة مع وليد جنبلاط، الذي لم يجد اي تبرير منطقي لمسلسل التنازلات السياسية التي قدمها، تحولت عند جنبلاط الى ملامة عندما امتنعت كتلة المستقل عن تسمية نواف سلام، واصفاً اياها بسياسة العقم والافلاس. أضف الى ذلك، ابتعاد عدد من الشخصيات التي كانت تدور في الفلك السياسي للحريري تباعاً، من أعضاء “التيار السيادي المتنوع” الى عدد من المقربين.

أصبح حسان دياب رئيساً مكلفاً تشكيل الحكومة العتيدة.. ومهما قيل انه جاء عبر تسمية قوى 8 آذار، وانه لا يحظى بالغطاء المذهبي المطلوب، وان تكليفه خرق للميثاقية.. إلا أنه بالنتيجة العملية هو دولة الرئيس المكلف تشكل الحكومة، مهما كانت تسميتها: حكومة حزب الله او حكومة باسيل.. لا فرق.

ما العمل؟

في المحصلة، بقى الحريري وحيداً، الى جانبه كتلته النيابية وتياره السياسي وانصاره.. ورؤساء الحكومات السابقين، وطبعاً دار الفتوى التي ناصرته وحضنته، ولم تزل.

ما العمل الأن؟ كيف سيتحرك؟ من سيحاور؟ بماذا سيخاطب جمهوره؟ كيف سيتصرف مع حلفائه المفترضين؟ أسئلة برسم الرئيس الحريري وحده وفريقه السياسي اللصيق.

انتفاضة الحريري التي جاءت متأخرة بعض الشيء، ركزت هجومها على محورين اثنين، باسيل الذي نعته الحريري بالطائفي والعنصري الذي يحاول السيطرة على البلد، وحكومة حسان دياب الذي أكد انه لن يغطيها ولن يمنحها الثقة. ساهم كلام الحريري في رفع مستوى التوتر لدى الشارع السني في معظم المناطق، ودفع بالعديد من الاسماء التي حاول دياب توزيرها الى الإحجام عن قبول المهمة.

يجب أن يبدأ الحل بالقراءة المتأنية والتقييم الدقيق والنقد الجريء بعيداً عن ردات الفعل العاطفية غير المحسوبة، والاعتراف بالأخطاء التي وقعت في المرحلة السابقة. ثم الشروع ببناء رؤية سياسية متكاملة للمرحلة المقبلة، تأخذ في عين الحسبان كل المتغيرات الداخلية الشعبية أولاً وعلى المستوى علاقته مع القوى السياسية ثانياً، الى علاقاته العربية والغربية المعقدة والمرتبكة.

اضافة الى ذلك، يجب ان تستند رؤية الحريري الى قناعة تامة بتغير النمط الذي كان سائداً في جميع مقارباته، ورسم سياسة مالية اقتصادية اجتماعية مختلفة جذرياً عن السابق، تكون فيها مصلحة الناس مصانة وحقوقهم أولوية، وتقوم على الشفافية ومحاسبة المرتكبين عبر قضاء حر مستقل ونزيه، وتحمي الدولة ومؤسساتها من الاستباحة الحاصلة.

هذه الرؤية، في حال حصولها، ربما تؤدي الى استعادة الثقة المفقودة مع جمهور الحريري أولاً، ومع حلفائه ثانياً، والأهم مع الشعب اللبناني.. فهل سيفعلها وينتفض بخطوات واثقة نحو مستقبل أفضل لن يكون من السهل بلوغه.. هذا في حال قُدّر للبنان تجاوز أزمته الحادة والنجاة من الإنهيار؟

والأهم من هذا، ألا تكون الرؤية مبنية على موقع الرئاسة الثالثة فحسب، وأن لا تغرّه دعوات البعض مؤخراً للعودة الى مكانه المعهود! فلقد آن الأوان للرئيس الحريري أن يتحرر من عقدة رئاسة الحكومة لمصلحة الزعامة السياسية والدور الوطني الأوسع والأشمل.