IMLebanon

مشاريع الزعامة السنّية الجديدة

كتب حسام عيتاني في صحيفة الشرق الأوسط:

سبقت اندلاع الانتفاضة اللبنانية محاولات عدة لتشكيل كيانات سياسية ضمن الطائفة السنية تكون بديلاً أو منافساً لتيار «المستقبل» الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق سعد الحريري. أكثر أصحاب المحاولات هذه من السياسيين الذين أيدوا الحريرية لسنوات طويلة، وانفكوا عنها لأسباب شتى يتعلق بعضها بتوالي الخسائر السياسية والمعنوية التي مُني بها «المستقبل» والزعامة التي قامت على إرث الرئيس الراحل رفيق الحريري.

أدرك عدد من العاملين على تجميع قوى السنة اللبنانيين بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) أن الزلزال الذي أصاب البلاد قد غيّر إلى الأبد المشهد العام والطريقة التي كان مواطنو لبنان ينظرون من خلالها إلى انتماءاتهم وولاءاتهم. لن تختفي الطائفية كمعطى أساسي في الحياة العامة اللبنانية في المستقبل المنظور، بيد أن ما يجري منذ أكثر من مائة يوم يشير إلى إمكان تجاوز الطائفية، وبروز المكون الوطني العام للهوية اللبنانية. هذا ما جعل سياسيين من الطامحين إلى الخروج من المأزق الذي وصل إليه «المستقبل» يصرفون النظر عن مشاريعهم التي بدت فجأة، وكأنها تنتمي إلى ماض بعيد لم يعد صالحاً لفهم الحاضر أو المساهمة في تشكيله.
يتعين في هذا المقام التذكير أن تفكك زعامة سعد الحريري جرى على امتداد سنوات لعلها بدأت في أعقاب الانتخابات النيابية في 2009 عندما فشلت «قوى 14 آذار» في تثمير انتصارها الانتخابي سياسياً، واضطرت إلى تشكيل حكومة ائتلاف مع الخصوم في ذلك الحين، وإلى الخضوع لضرورات المصالحة العربية. ثم تعاقبت الانتكاسات من الشح المالي إلى انهيار «14 آذار» وصولاً إلى التسوية الرئاسية في 2016 التي أتت بميشال عون رئيساً للجمهورية. ترافقت هذه المجريات مع تزايد حالة الإحباط لدى الجمهور السنّي الذي شعر أن زعامة الحريري التي استثمرت طويلاً وكثيراً في التعبئة ضد «حزب الله» هي أضعف من أن توقف تمدده في المجالات التي كان السنة يظنون أنهم يحتكرونها. وأسهمت الثورة السورية والفاعلية الهائلة التي أظهرها «حزب الله» في قمعها مقابل إخفاق الحريري في تقديم أي شيء ملموس لها باستثناء بعض المواقف المتلعثمة، في تسليط الضوء على الفارق الشاسع بين الزعامتين الشيعية والسنية لمصلحة الأولى طبعاً.

الأهم أن سعد الحريري لم يظهر في الحكومات التي ترأسها قدرة على إحياء المشروع الاقتصادي والتنموي الذي شكل رافعة لزعامة والده، بل عمد إلى إقفال المؤسسات الإعلامية والخدمية التي أقامها الحريري الأب، ومثلت رئة تتنفس منها الطائفة السنية، وخصوصا الفئات الأفقر فيها، وصوتاً يساجل الخصوم ويزود الأنصار بالحجج والتبريرات، ما جعل الحريري الابن يبدو بمظهر من يفرض الحصار على نفسه. وزادت في الطين بلّة الاتهامات بالفساد وباعتماد فرض الضرائب الجائرة على اللبنانيين التي وصلت إلى «ضريبة الواتساب» والتي اقترحها أحد وزراء «المستقبل»، وكانت الشرارة التي أشعلت الثورة اللبنانية. وكانت ثالثة الأثافي تحالفه مع جبران باسيل رئيس «التيار الوطني الحر» المكروه من أكثرية اللبنانيين (على ما تدل الهتافات التي تتناوله أثناء مظاهرات الانتفاضة الحالية).

ما تقدم جزء من الخلفية التي أسهمت في انحسار الزعامة الحريرية على النحو الذي يشهده جمهور السنة اللبنانيين اليوم، ما شجع عدداً من السياسيين على التفكير بإنشاء أحزاب أو تيارات أو كيانات جديدة ترث الحريرية. القوام «النظري» للمشاريع المذكورة يتلخص في التشديد على النواحي الإيجابية لتجربة الحريري الأب وعلى إفلاس سياسات الابن. تضاف إليها جرعة عالية من العداء لـ«حزب الله» مع تجنب انقلاب هذا الموقف إلى تحريض مذهبي صريح. ولا تخلو هذه الطروحات من محسّنات بلاغية تعيد التذكير بالقضية الفلسطينية، وانتماء لبنان العربي وأهمية القومية العربية.

الأعوام الماضية حملت بواكير مشاريع مشابهة لعل أشهرها مشروع الوزير السابق أشرف ريفي الذي حاول إقامة حزبه على يمين سعد الحريري من خلال تركيزه على «المظلومية السنية» وعلى ميوعة موقف «المستقبل» من هيمنة «حزب الله» على الحياة السياسية. نجح ريفي الذي تحالف مع هيئات من المجتمع المدني في الانتخابات البلدية في مدينته طرابلس في 2016 خصوصاً من خلال التركيز على استغلال التناقض الحاد بين ثروات زعامات المدينة وبعضهم من كبار الأغنياء في العالم (وليس في لبنان فقط) وبين الفقر المدقع للطرابلسيين. لكنه كان نجاحاً قصير العمر، إذ بدت طموحاته أكبر من إمكاناته وكفاءاته ولم تنفع شعاراته المعادية لـ«حزب الله» في درء غائلة الجوع التي تلتهم سكان المدينة ذات الأكثرية السنية.

فشل مساعي ريفي لم يردع طامحين آخرين إلى تكرار المسار ذاته مع مقاربات تختلف اختلافات طفيفة عن الحريرية الأصلية، وعن النسخ التي سارت على منوالها وخلاصتها إعادة إنتاج زعامة سنية قوية، على غرار باقي الطوائف التي تحتكر فيها قيادات أحادية تمثيل طوائفها، لكن مع التركيز على مظلومية السنة، واللعب على وتر خسارتهم المكانة التي كانت لهم ذات يوم في إدارات الدولة ومناصبها (وغنائمها ضمناً).

غني عن البيان أن ورشات كهذه ستلاقي فشلاً مزدوجاً: الفشل الأول هو عجزها عن إنتاج زعامة جديدة في مناخ يشكل التخلص من أعباء الزعامات التقليدية جزءاً رئيسياً من همومه وهواجسه. والفشل الثاني هو أن القيادات السنّية الحالية والتي تعتبر منافسة لتيار «المستقبل»، وعلى الرغم من سيرها في ركاب «حزب الله»، فإنها لم تنتزع المقعد الأول في الطائفة السنية ما يجعل من كل مشروع للخروج من الانقسام السنّي على قاعدة التهويل بخطر التمدد الشيعي، مجرد إضافة كمية لا تعالج سوى مشكلات أصحاب المشاريع. فالطائفة السنية تبدو اليوم، بتفتت قياداتها وزعاماتها، أقرب إلى النموذج الذي يجب على بقية الطوائف السير نحوه على طريق التخلص من الزعامات المطلقة والأحادية. الدعوة إلى إعادة السنة إلى حظيرة واحدة هي دعوة للسير عكس التطور.