IMLebanon

“سبت أسود” مالي في لبنان

كتبت صحيفة “الراي” الكويتية:

 

7 أذار 2020، تاريخ دخل التاريخ مع ولادة لبنان آخر من رحم القرار غير المسبوق الذي أعلن أمس بالتخلف عن سداد الديون المستحقّة، بدءاً من إصدار يوروبوند 9 اذار (قيمته 1.2 مليار دولار)، والذي وضع البلاد أمام مفترق ستنعطف معه هويّتها المالية – الاقتصادية – المصرفية استكمالاً للتحوّلات “العميقة” التي شهدها الواقع السياسي في الأعوام الـ 15 الأخيرة وتوّجها تشكيل الحكومة الجديدة التي تكرّس معها إمساك حزب الله بكل مفاصل القرار والمؤسسات الدستورية.

وكان يمكن لما وصف بأنه “السبت الأسود” المالي، الذي انضمّ معه لبنان إلى نادي الدول المتعثرة وكسر سجلّه الأبيض في الأسواق العالمية كدولة لم تتخلّف يوماً عن دفْع مستحقاتها، أن يقارب من زاوية تقنية بحت لولا “مسرحه السياسي” الزاخر بمعطيات مهّدت له وترتبط بـ “التعديلات الجينية” التي أدخلت تباعاً على جمهورية الطائف وتوازناتها، كما بمؤشرات مقلقة حيال ما قد يترتّب على “القفزة في المجهول” بلا أي “شبكة أمان” تقي البلاد شرور “الاصدام الكبير”.

كل شيء في الطريق لإعلان وقف دفْع يوروبوند الذي أعلنه رئيس الحكومة حسان دياب مساءً عكس تاريخية قرار تجرّع كأس السم الذي بدت مقدّماته تعبيراً عما هو أقرب إلى مراسم دفْن ليس مرحلة 30 عاماً من سياسات خاطئة كما روّج الائتلاف الحاكم الذي تقوده الأكثريتان الشيعية حزب الله وحركة أمل والمسيحية التيار الوطني الحر، بل لوجهة طبعتْ لبنان الكبير الذي كانت أمّ المفارقات السوريالية أن يجد نفسه في سنة المئوية وكأنه يعبر الى الخراب الكبير.

…  فمن الاجتماع الرئاسي في القصر الجمهوري بحضور الرؤساء ميشال عون ونبيه بري ودياب والوزراء المعنيين والقطاع المصرفي والذي جاء بمثابة تأكيد التكافل والتضامن بين مكوّنات الائتلاف الحاكم بإزاء القرار المرّ، وصولاً لجلسة الحكومة (في قصر بعبدا)، ثم كلمة رئيسها (من السرايا) بحضور الوزراء التي علّل فيها خلفيات “الاستسلام” المالي وأعلن خطة إدارة مرحلة التخلّف والتفاوض مع الدائنين وإعادة الهيكلة والجدولة وما رافقها من تعزيزات أمنية مكثفة في بيروت تحسّباً لرد فعل الشارع، كل ذلك أكد المؤكد حيال انتهاء “لبنان الذي كان”.

وما جعل أوساطاً سياسية، عبر صحيفة “الراي” الكويتية تحبس أنفاسها بإزاء ما بعد سبت الـ”لا دفْع” مجموعة نقاط أبرزها:

* أن هذه السابقة في تاريخ لبنان تختلف عن تجارب دول أخرى تعثّرتْ وتلمّستْ طريق النهوض مجدداً. ذلك أن بيروت انزلقتْ إلى هذا النفق مكشوفة الظهر، في ظلّ تخلّيها عن الهبوط الآمن الذي كان سيشكّله دخول برنامج مع صندوق النقد الدولي رفع حزب الله بطاقة حمراء بوجهه رفْضاً لتدويل الأزمة المالية، وفي غمرة عزلة عربية وخصوصاً خليجية تعيشها، وليس انتهاءً باستمرار الولايات المتحدة في شدّ حبْل العقوبات على عنق الحزب الذي يعتبر المجتمعان العربي والدولي أنه يهيْمن على بلاد الأرز التي صارت جزءاً من محور إيران في المنطقة، بما يخشى معه تالياً أن يكون لبنان أمام سيناريو غزة أخرى.

* أن وقف السداد أعطي أبعاداً جعلتْه امتداداً لتغيير الواقع الجيو سياسي للبنان وتعديل نظامه بالممارسة و القضم المتدرّج الذي اتخذ شكل تطويع الوقائع والتوازنات تارةً بالاغتيال وطوراً بعمليات عسكرية، وصولاً إلى إمساك قوى 8 اذار بورقة الغالبية البرلمانية، بعد وصول حليفها إلى رئاسة الجمهورية، وأخيراً ولادة حكومة اللون الواحد.

ولم يكن أدلّ على المعاني “العميقة” للحقبة الجديدة التي دخلها لبنان والخشية من اتجاه لترجمة الرغبة في تكريس هوية الاقتصاد المقاوم، من ربْط إعلام قريب من حزب الله ما بعد التخلّف عن السداد بعنوان إلى الشرق در، وهو العنوان الذي يشكّل حبل السرة الذي يجمع بين تحالف الأقليات في بلاد الأرز والمنطقة.

وفي هذا السياق جاء الكلام عن تغيير بمعنى كسر المحرّمات التي وضعت أمام لبنان منذ سايكس – بيكو، وتكرّست لاحقاً في محطات سياسية – اقتصادية عديدة، لعزل لبنان عن الشرق فيبقى ساحةً للنفوذ الغربي ونموذجاً للسيادة المرهونة للجوع، مع التذكير بما سبق أن طرحه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله من خيار التوجّه نحو الشرق في سياق فتح الباب أمام خيارات بناء اقتصاد حقيقي بالتعاون الاقتصادي المتقدّم مع الصين وروسيا بالتوازي مع التكامل الاقتصادي مع الحلقة الأقرب، أي سورية (…)

* ما سبق السبت الكبير من قرار اتخذه المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم وقضى بمنْع التصرف بأصول وممتلكات 21 مصرفاً لبنانياً، وهو القرار الصاعق الذي اعتبر بمثابة 7 أيار مالي – مصرفي وانقلاباً على النظام الاقتصادي، كما وصفه الرئيس سعد الحريري، وبداية خطة تأميم ودفن للبنان الكبير في مئويته على حدّ وصف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.

ورغم تجميد النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات في اليوم نفسه (ليل الخميس) قرار إبراهيم رابطاً الأمر بالمعلومات عن مباشرة السلطات المالية الدولية بوقف التعامل مع المصارف والهيئات المالية اللبنانية وفرض ضمانات للعمل معها، فإن اندفاعة المدعي العام المالي التي اعتبرت مشبّعة بالأبعاد السياسية عزّزت المخاوف من منحى لمعاقبة القطاع المصرفي وحاكم المركزي رياض سلامة على تعاونهم في ملف العقوبات الأميركية على حزب الله وفي الوقت نفسه تحويل هذا القطاع بدل عن ضائع عبر تحميله لوحده وزر الانهيار المالي الذي يتركز في جوانب أساسية فيه على سياسات أفضتْ إلى عزْل لبنان عن محيطه العربي واسترهانه لمشروع إقليمي ناهيك عن الفساد المستشري ومزاريب الهدر المفتوحة.

* الغموض الكبير حيال ردّ فعل الدائنين الأجانب والأسواق والمؤسسات المالية الدولية، إلى جانب المجتمع الدولي، على خيار التخلّف عن السداد قبل التوصل إلى اتفاق مع حملة السندات وسط ملاحظة أن الحكومة اللبنانية لم تستفد من مهلة أسبوع إضافي كان متاحاً للتفاوض المسبق، الأمر الذي عكس وجود قرار سياسي بفرْض أمر واقع قبل الجلوس إلى الطاولة التي ستكون عليها جميع السندات الدولية (نحو 31 مليار دولار).

وتخشى الأوساط المطلعة من سيناريوات قاتمة للتخلّف غير المنظّم ترسمها مسارات مقاضاة دولية قد تحمل كوابيس لبيروت ويمكن أن لا تغيب عنها العوامل السياسية المتصلة بالواقع اللبناني، متوقفة عند كلام مصادر حكومية عن أن الحكومة اتخذت قراراً بعدم دفع ديونها المستحقة من يوروبوند على أن يتم التفاوض مع الدائنين وبحال التوصل إلى اتفاق يكون عدم الدفع منظّماً.

وكان لافتاً أن وكالة بلومبيرغ استبقتْ القرار المعروف بالتحذير من أن دياب ووزراءه يواجهون مهمة مستحيلة، وكذلك فإنّ حزب الله وحلفاؤه اعتبروا أنّ التخلف عن السداد يمكن أن يكون أفضل خيار للبنان وأنّ أي خطة لإعادة هيكلة الديون أو الإصلاح يجب ألا تتضمن قرضاً من صندوق النقد الدولي وهو ما يصعّب مهمة التوصّل إلى حلّ والحصول على الدولارات التي يحتاج إليها.